حتى لا نتسبب بالموت السريري لمنظومتنا الصحية
عبير البرغوثي
حتى لا نتسبب بالموت السريري لمنظومتنا الصحية
في اتجاه معاكس لحالة كورونا في العالم، تشهد الأراضي الفلسطينية مسارًا كارثيًّا لتوحش وتوغل كوفيد -19 في جسدنا الفلسطيني، ليمتد في طول الأرض الفلسطينية وعرضها، ينهش أجساد شيوخنا وشبابنا دون رحمة، وما ارتفاع عدد الإصابات والوفيات في مختلف الفئات العمرية دون تمييز إلا دليل على جدية المرحلة وذروة الخطورة التي تعيشها فلسطين في مواجهة هذا العدو الوحشي.
قد لا نكون وحدنا من يشهد هذا التصعيد الصحي الخطير على مستوى دول العالم، حيث أن هناك عددًا من الدول الصديقة وغيرها التي تشهد هجمة وموجة متجددة للفيروس القديم والمتحور، لكن ظرفنا خاص بكل ما في الكلمة من معنى، فمع تأخر انتاج وتوزيع اللقاحات، ومع تفشي ظاهرة القومية وربما التسييس واللامهنية في العلاقات الدولية وسلوك الشركات المنتجة، في ظل هذه الأمور وغيرها نحن في مواجهة الوحش الفيروسي، فتأخر وصول اللقاحات لا يقل خطورة عن تراجع الاستعداد الشعبي الجدي في مجال الإجراءات الاحترازية، لأن الحذر والتمسك بإجراءات التباعد والوقاية وضبط التنقل، كل ذلك قد يشكل بوابة لمرحلة جديدة من التعافي، والإهمال قد يكون بوابة لجهنم عنوانها انهيار منظومة الاجراءات الوقائية ويتبعها انهيار المنظومة الصحية، فالأمور ليست "مزحة" باللغة الشعبية، بل هي لحظة حرجة وتحد أمامنا جميعاً، فإما الموت البطيء وأما الانتصار والحياة الجديدة، الخيار بأيدينا كمواطنين، والآلية بأدينا كشعب وحكومة، الغاية واحدة ومشتركة، والهدف واحد صحة وسلامة المجتمع، لأن الوقاية والاجراءات الاحترازية ليست وجهة نظر، بل هي شرط للنجاة بالذات وحماية للآخرين وفي القلب منهم الأحباء وكل الأصدقاء.
لا يمكن لنا كمجتمع ان نشعر بالخطورة التي تواجهنا فقط حينما نعود أحد الاقارب حينما ينقل للمستشفى، في تلك اللحظة نؤمن ان الفيروس قاتل وعدو غاشم، لكن الدعوات ولحظات الحزن والتمني واللوم وحتى الندم لا تعيد للمصابين شفاء او فرصا للنجاة من بين أنياب فيروس الموت، وربما قد لا يجد ذاك المصاب الجديد سريراً أو ساحة صغيرة ومعاينة من الطبيب، الطواقم الطبية باتت تحت ضغط أشد من أي وقت مضى، ومع وصول مستشفياتنا الى حالة الاشباع ولمستويات لن يكون بمقدورها التقاط انفاسها لتبقى على قيد الحياة مع تدافع الإصابات بكورونا بموجات تفوق كل امكاناتنا، نصل الى مفترق طرق ليس فيه تهوين أو مكابرة، مفترق طريق لخيارات وقرارات شعبية أساسها المواطن قبل اي شخص آخر، فإما خيار للعودة لكافة الإجراءات الاحترازية وخطوات الوقاية بكافة مكوناتها، تبدأ من أنفسنا ونحرص على ان يتمسك بها كافة ابناء محيطنا، باعتبارها معركتنا جميعاً، وهي خيارنا للخروج دون خسارة أحبائنا بسبب الاستهانة او الاستهتار والندم حينما لا ينفع الندم، وإلا فإن الاستمرار في الاستهانة أو الهجمات التحريضية ضد التمسك بالإجراءات أو التشكك والتشكيك بجدوى وفاعلية الإجراءات الصحية، بغض النظر عن النوايا، كلها بوابة لمزيد من الخسائر وتفاقم الأوضاع وحينما تكون العلاجات أضعف من أن تكون ذات أثر للخروج من مستنقع تفشي الوباء وتفاقم الخسائر وضياع الأرواح التي كان لاستهتارنا سبب لفقدانها بكل سهولة.
هناك ضغوط وعراقيل وعقبات متنوعة تعاني سلاسل منها الامداد للقاحات وكافة الأدوات الطبية المتعلقة بمكافحة فيروس كورونا، سواء تلك المتعلقة بضغوط وصعوبات الطاقات الانتاجية للشركات، وأولوياتها للتوزيع وتحكم الدول بطرق توزيع اللقاحات، بما بات يعرف بتسييس اللقاحات على حساب قيم التعاون والشراكة الدولية، بالإضافة للتشكيك وعدم التحقق من كفاءة وسلامة بعض المطاعيم كما يحدث بين حين وآخر لهذا اللقاح او ذاك، ما يعني تأخر وصول اللقحات بالكميات المطلوبة والكافية للعديد من الدول ومن بينها فلسطين، واقع يتطلب الكشف عن مبادرات لمواجهة الاستسلام في وجه الجائحة، لان الاستسلام للجائحة خيانة بكل ما في الكلمة من معنى.
كلنا يتذكر ما آلت آليه أوضاع بعض الدول في بداية الجائحة، حينما استبد فيها الاستهتار والمناكفات السياسية وغير السياسية للتهوين من الفيروس، وما هي إلا أيام حتى استشرى الوباء، وعجزت المستشفيات عن استقبال اي مريض، وانتشرت الجثث الهامدة في ممرات المستشفيات، وحالات عديدة فقدت كل ما تبقى لديها من أنفاس الحياة قبل ان يكتب لها رؤية وجه طبيب ولم يكتب له ان يستعين بيدي ممرض ولو من بعيد، حينها أعلن الافلاس والاستسلام وانتظروا فقط تدخل حلول من السماء، هي لحظات تدمي وتكشف الضعف ولكن بعد فوات الأوان.
لم يكن لتلك الدول أن تعيد التقاط أنفاسها وتنظيم نفسها من جديد إلا من خلال الايمان بأن هناك عدوا خطيرا يترصد الهجوم في أول نقطة ضعف، فبدأت الدول بإحكام إجراءاتها، وإغلاق نقاط ضعفها، وأعلنت الجدية لكافة إجراءات الوقاية، واعادت الهيبة الصارمة لكافة تعليماتها الاحترازية، وعملت الحكومة والمجتمع في تحالف عريض للمواجهة ومحاصرة الفيروس في الليل والنهار، في المدن والقرى، لان المواجهة قد تكون لأيام شديدة ولكن تعقبها حياة فيها الأمن والسلام والبقاء للإنسان، وفيها سبيل النجاة لطواقمنا الطبية واستمرار منظومتنا الصحية على قيد الحياة، انها لحظة لتحديد أين نريد أن نكون، مع الاستهتار والتشكيك كحلفاء للموت، أو مع الالتزام الخلاق والمسؤول بإجراءات صعبة لأيام ولكنها تحالف مح حياة قادمة دونما فقدان لأي من الأحباء؟ نحن من نختار، ومعاً نحمي فلسطين من كل الشرور.
الحياة الجديدة