سلام بنكهة الصمود والتضحيات
نيفين عبدالهادي
سلام بنكهة الصمود والتضحيات
في الحديث عن السلام العادل والشامل تفاصيل كثيرة، لا تقف عند حدّ الأطر السياسية، رغم أنها حتى في هذه الجزئية لا تلتزم بتطبيقها اسرائيل، فهناك تفاصيل انسانية تجعل من القضية الفلسطينية وتحقيق السلام على محكّ رؤية ومتابعة هذه التفاصيل مهما كانت دقيقة أو كبيرة، والأخذ بها على محمل الالتزام.
ولا تحتاج التفاصيل الانسانية في القضية الفلسطينية بحثا ولا مجهرا للتقصي، فهي تتجسد يوميا أمام عين الحقيقة في مواقف وأحداث تدمي القلب والعين، وتجعل من خطى السلام تتراكض للخلف وتجعل منه صعب المنال، إن لم يكن مستحيل المنال، وسط تعنّت اسرائيلي مستمر دون توقف ودون مراعاة لحال امرأة وطفل ومسنّ، تقترف أعلى درجات الانتهاكات جاعلة من الأرض الفلسطينية مضطربة على مدار الساعة بظروف تزيد من حجم الظلم وتعمّق أثره.
لا يمضي يوم دون أن تستوقفنا عشرات الصور والقصص لأطفال ناموا في الشارع متوسدين القهر والظلم، وهم يرون اسرائيل تهدم منازلهم، لتهدم معها قلوبهم وأحلامهم وماضيهم وحتى مستقبلهم، فمن منّا لم ير صور الطفلة التي نامت بسيارة والدها وهي تحتضن لعبتها بينما يهدم الاحتلال الاسرائيلي منزلها ربما كانت تحلم بأن واقعها حلما وستستيقظ صباحا لتجد نفسها على سريرها الذي حرمها منه الاحتلال، من منا لم يسمع جواب الطفلة رقية عندما سألها أحدهم «وين بدك تنامي الليلة» لتجيب بالشارع لأنه الاحتلال بده يهدم دارنا»، هي رقية التي «كانت» تسكن أحد المنازل الذي جرى هدمه في بلدة سلوان بالقدس المحتلة، تنام بالشارع مع ألعابها كحال عشرات الأطفال!!!
نعم فاليوم قصص طفولة أبناء فلسطين وتحديدا بلدة سلوان بالقدس المحتلة، تصاغ بالفعل الماضي، «كانت» لهم حياة ومنازل ودفء جدران تضم فرحهم وحزنهم، وتاريخا وجغرافيا مكان وحياة، اليوم بجرائم احتلالية يخطون يومهم بالفعل الماضي فحياتهم «كانت»، والقادم ممحي المعالم ومنتهك السلام ومنزوع الاستقرار، وحتما سيكون يوم غد سلوان بالعشرات؛ فجرافات الاحتلال مجرمة كسائقيها، تهدم وتقتل غير مكترثة بصيحات النساء ودموع الأطفال وقهر الرجال!!!
من منّا لم يقرأ نبأ وفاة الشابة سهى غسان محمد جرار (31) عاما، التي وافتها المنية اثر نوبة قلبية، سهى التي سمعت والدتها الأسيرة الفلسطينية خالدة جرّار نبأ وفاتها وهو يذاع على إحدى الإذاعات، ولم يقف الألم إلى هذا الحد، إنما رفضت سلطات الاحتلال الإسرائيلي، كافة الالتماسات التي طالبت بالإفراج عن الأسيرة الفلسطينية خالدة جرار بهدف وداع جثمان ابنتها التي توفيت يوم الاحد الماضي، نعم فقد رفضت سلطات الاحتلال الإسرائيلي طلبين الأول الافراج المبكر عن الأسيرة خالدة جرار، والثاني السماح لها بإلقاء نظرة وداع على ابنتها التي شكّلت وفاتها فاجعة لأسرتها وللشعب الفلسطيني برمته.
خالدة جرار التي اكتفت بوداع ابنتها الشابة بباقة من الورد كتبت عليها (حرموني من وداعك بقبلة، أودعك بوردة)، سيبقى جرحها ينزف ما بقيت على قيد الحياة، إذ ستبقى على قيد الحزن والألم، وستضاف لتفاصيل الانسانية المنتكهة من قبل الاحتلال الإسرائيلي للفلسطينيين كافة، وسيكون هناك عشرات مثل «خالدة»، ممن ستدمى قلوبهن على أبنائهم دون أن يملكن حق وداعهم، لكن بالمقابل سيبقى أبد الدهر القوة والصبر والثبات «الخالدة» من الفلسطينيات اللاتي لا يشبهن سوى عظمتهن.
كثيرة هي التفاصيل التي تغيب بها الإنسانية بشكل كامل تصرّ عليها اسرائيل، وتزداد ظلما وقهرا، يوما بعد يوم، رامية بعرض الحائط كل الضوابط السياسية والانسانية والاجتماعية، جاعلة من القهر والظلم يتعمقان في ذاكرة شعب أعزل، إلاّ من الكرامة وحبّ الوطن، قاتلة كل أشكال الحياة إلاّ تلك المتعلقة بالنضال من أجل الوطن، ففي هذه التفاصيل تعميق للظلم، وتجذير للنضال حيث الحرية التي يسعى لها كل باحث عن السلام والاستقرار، بنكهة الصمود والتضحيات مهما كان ثمنها.
"الدستور العمانية"