بين الوعود القصوى وحروب التسهيلات
عدلي صادق
بين الوعود القصوى وحروب التسهيلات
كما في جميع الجولات الأخيرة من القصف المتبادل وغير المتكافيء، بين إسرائيل والمقاومة في غرة، كان نتنياهو هو المبادر الى الإعتداء، بدءاً من تعمده جر الطرف الفلسطيني الى الإحتجاج بالنيران على عدم الوفاء بالتسهيلات التي تم إقرارها في تفاهمات سابقة، وصولا الى شن الهجمات على غزة. فقد باتت معادلة التسهيلات، تشكل سبب كل جولة، وفي هذا السياق ظل اللاعبون المتدخلون هم أنفسهم: مصر تتوسط لوقف النار وإعادة التأكيد على ما جرى التأكيد عليه من تسهيلات متواضعة، وقطر تظهر لتأدية دورها الإغاثي بعد كل نكبة، وتُبرق لتؤكد على أنها جاهزة للصرف.
نلاحظ هنا أن كلاً من اللاعبين، مضطر الى دوره، إما لكي يؤدي وظيفته الإقليمية الريادية ويظل ممسكاً بناصية الحفاظ على أمنه القومي ــ كما هو الحال بالنسبة لمصر ــ وإما لكي يظل يتبدى في ناظر الفلسطينيين وسائر المسلمين ــ على ما لقضيتهم من أهمية لدى الأمة الإسلامية ــ باعتبارة صاحب المروءة الأولى، وإن كان تدبير سياقات هذه المروءة المفتعلة، يجري بالتنسيق مع تل أبيب. أما نتنياهو، فإنه في جولات الحرب الإجرامية، بالقصف، التي يأمر بشنها على غزة، يناور لكي ينجو سياسياً وفي المرة الأخيرة تحديداً، أراد شيئاً وحصل على عكسه، عندما أمر بالقصف المكثف، لكي يسترضي الأحزاب الصغيرة الأشد تطرفاً، لتأتلف مع الليكود في الحكومة الجديدة، وفي الوقت نفسه تعمد نتنياهو إظهار استعداده لتلبية متطلب قديم لأفيغدور ليبرمان، وهو قصف لا يتوقف على غزة حتى تدميرها. فهو يتطلع الى حكومة تستند الى قاعدة برلمانية مريحة، تضمن له الحصانة ضد القضاء، والإفلات من المساءلة القضائية في قضايا الفساد!
أما حماس، فقد أصبح هدفها الذي أعطته الأولوية على أي هدف سواه، هو ألا ينفجر المجتمع في وجهها أو حتى في وجه عباس لكي لا تصيبها شظايا. فهي على هذا المستوى، تواجه مأزقاً كما يواجه الآخرون، ثم إن عناصر الإنفجار الإجتماعي موجودة وتتفاقم، وليست جماس بعيده عن أسبابها،، إن لم تكن هي السبب الأول للبؤس. فالأسباب العباسية لبؤس غزة، مشتقة من السبب الحمساوي، على اعتبار أن أنقضاضها على السلطة، كان انقضاضاً على المؤسسات الدستورية الضامنة للتوازن في السياسة الإجتماعية، وفي الوقت نفسه كان هدية لعباس لا تُقدر بثمن، جعلته يفصح مرتاحاً عن كل دواخل نفسه حيال الناس والرفاق والمؤسسات والتوجهات الأمنية والقضية نفسها، فلا يُسائله أحد عن مال ولا عن بنين، حتى أصبح غير مستعد لأن يمنح الإذن لشاشة التلفزة التابعة له، بأن تبث من غزة أو عن غزة وهي تتعرض للقصف، أو حتى أن تعرض مادة إرشيفية تراعي أن غزة تُقصف والناس فيها يواجهون الموت!
وفي غزة، تنتهي كل جولة من حرب التسهيلات التي يدفع الناس كلفتها من أرواحهم ومقدراتهم، بما يفيد حماس ويضعف قدرة المجتمع على نقدها، بسبب فعاليات المقاومة حين تقصف جواباً على نيران المعتدين. غير أن الأمر، بعد كل جولة من القصف، ينتهي أساساً وقبل كل شيء، بمنحة قطرية ومد نطاق حركة الصيادين وإدخال الوقود والبضائع من إسرائيل، مع وعود بكهرباء إسرائيلية ايضاً يحملها الى غزة الخط 161 فترى حماس في هذه المباهج، سبباً لتخفيف الإحتقان الإجتماعي.
غير أن المؤسف هو استمرار التجاهل التام لحقوق الخاسرين في كل جولة من القصف: الأسر التي فقدت أبناءها وأطفالها، والمواطنون الذين دُمرت عمائرهم ومنازلهم وكلها بنيت من شقاء أعمارهم وأعمار أبائهم. وهؤلاء المواطنون أنفسهم، معرضون للقمع إن طالبوا بالحريات. إن الحروب في العادة، تثير الأسئلة الكبرى بعد أن تسكت مدافعها، وقد بات واضحاً أن المقاومين في غزة يقاومون لتثبيت التهدئة وتحرير التسهيلات من عراقيلها وليس فلسطين من النهر الى البحر. ولا يختلف اثنان، على أن التسوية التي يسعى اليها كيان فلسطيني قوي سياسياً وموحد، أفضل بكثير من هدنة هشة يكسرها العدو عند احتياجه للمناورة. فلم يعد هناك مجالاً للمكابرة والمزاودة، والسؤال الآن: الى أين نحن ذاهبون؟ لدينا طرف ظن أن الدولة المستقلة ستتاح له بالسياسة الرقيعة المشفوعة بالتعاون الأمني، بدون المجتمع وبدون المؤسسات، وطرف آخر ظن أن التحرير الكامل ممكن وقريب، بدون وسائل وامكانياته، فاحتقر السياسة وأسمعنا الطنين، ثم بات رسوخ التهدئة مع الدراهم هدفاً بالنسبة له. فهل يصارح كل طرف نفسه ويتواضع، أم إننا سنظل مشتتين بين جولات الكلام الفارغ في رام الله وجولات القصف وحروب التسهيلات وكلام الوعود القصوى في غزة؟