عندما يصبح الفساد سياسة… وتُعاقَب الشهادة بقوة القانون
إدوارد كتورة
عندما يصبح الفساد سياسة… وتُعاقَب الشهادة بقوة القانون
الكوفية السلطة التي تحاكم الفقر وتبرّئ الفساد
ليست الأزمة الفلسطينية أزمة خبزٍ وماء، ولا عجزَ ميزانيةٍ يمكن تبريره بتقارير محاسبية باردة، بل أزمة منظومة حكم كاملة تحوّلت فيها السلطة الفلسطينية، بقيادة محمود عباس، من أداة إدارة مؤقتة في سياق تحرر وطني إلى نظامٍ مغلق يحمي الفساد ويُجرّم النزاهة. منظومة أصبح فيها الظلم مألوفاً، والعدل استثناءً، وتحوّل القانون من أداة حماية للحقوق إلى أداة ضبطٍ وعقابٍ سياسي.
قرار قطع المخصصات: عقوبة جماعية بغطاء إداري
القرار الأخير القاضي بقطع أو تقليص مخصصات عائلات الشهداء والأسرى ليس إجراءً إدارياً ولا إصلاحاً مالياً كما يُسوَّق له خارجياً، بل عقوبة جماعية مكتملة الأركان، تنتهك بشكل صريح مبادئ العدالة الاجتماعية، وتتناقض مع التزامات فلسطين المعلنة بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان، ولا سيما العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الذي يحظر استخدام التدابير الاقتصادية كأداة للعقاب السياسي أو التمييز.
عندما تتحوّل لقمة العيش إلى أداة تأديب
هذا القرار لا يستهدف المال فقط، بل المعنى. إنه إعادة تعريف قسرية للشهادة كخطأ، وللنضال الوطني كعبء، ولعائلات الشهداء والأسرى كفئة مشبوهة يجب “تأديبها” اقتصادياً. هكذا يُختزل الحق الاجتماعي إلى امتياز مشروط بالولاء، في انتهاك واضح لمبدأ المساواة أمام القانون، ولمبدأ عدم رجعية العقوبات، ولجوهر الحماية الاجتماعية بوصفها حقاً أصيلاً لا مِنّة سياسية.
حكم المراسيم: الدولة التي بلا مجلس تشريعي
منذ تعطيل المجلس التشريعي الفلسطيني والحكم بالمراسيم، لم تعد السلطة تُدار بمنطق الدولة، بل بعقلية الشركة العائلية: مناصب تُوزَّع بالواسطة، ومال عام يُدار بمنطق المكافأة والعقاب، وقرارات مصيرية تُتخذ بلا رقابة ولا مساءلة ولا تفويض شعبي. في هذا السياق، يصبح التملّق بديلاً عن الحق، والصمت شرطاً للبقاء، وتتحوّل الإدارة العامة إلى شبكة زبائنية مغلقة.
منظمة التحرير: من إطار تحرري إلى ختم شرعي
الأخطر من الفساد المالي هو الفساد الرمزي: تفريغ منظمة التحرير الفلسطينية من مضمونها التمثيلي، وتحويلها إلى ختمٍ سياسي يُستخدم لتبرير قرارات سلطةٍ فقدت شرعيتها الشعبية منذ سنوات. منظمة وُلدت كإطار نضالي جامع، تُختزل اليوم في دائرة ضيقة، وتُعاد صياغتها لتكون أداة ضبط داخلي لا تعبيراً عن الإرادة الوطنية الجامعة.
اغتيال الوعي: كيف تُدار السيطرة بلا احتلال مباشر
ما يجري اليوم هو عملية منهجية لإعادة هندسة الوعي الفلسطيني. قوانين تُفصَّل على مقاس السلطة، إعلام رسمي يشيطن النقد ويخلط بين المعارضة والخيانة، وتاريخ يُعاد تدويره ليُختزل في مسارٍ تفاوضي منزوع النضال، فيما يُرهن المستقبل بالخوف: الخوف من البديل، من الفوضى، من الناس أنفسهم. هذا ليس استقراراً، بل إدارة خوف ممنهجة.
القانون الدولي لا يعترف بالولاء كشرط للحقوق
من منظور القانون الدولي الإنساني، تُصنَّف عائلات الشهداء والأسرى ضمن الفئات المتضررة من نزاع طويل الأمد، وتتمتع بحقوق حماية خاصة. المساس بمصادر عيشها لا يُعد إخلالاً بالواجبات الاجتماعية فحسب، بل يرقى إلى تحميل جماعي للمسؤولية، وهو ما يتعارض مع المبادئ الأساسية للقانون الدولي، ومع حظر العقوبات الجماعية، ومع مفهوم الكرامة الإنسانية غير القابلة للتصرف.
حين تخاف السلطة من شعبها
كلما ارتفع منسوب الخطاب الرسمي المليء بالتبرير، كلما دلّ ذلك على أن الحقيقة باتت تهدد مصالح القائمين على السلطة. لهذا تُلاحَق الأصوات المستقلة، وتُقمع المبادرات الوطنية، ويُجرَّم أي تفكير خارج “الإجماع” المصنَّع. المشكلة ليست في غياب البدائل، بل في وجودها، وفي خوف النظام من أي مساءلة حقيقية.
ليست معركة رواتب… بل معركة معنى
ما يحدث اليوم ليس نقاشاً مالياً، بل معركة على معنى فلسطين نفسها: هل هي قضية شعبٍ يناضل من أجل حريته وكرامته، أم ملف إداري يُدار بعقلية الشرطي والمحاسب؟ هل تُبنى الدولة بمعاقبة شهدائها، أم بحماية إرثهم وتحويل تضحياتهم إلى أساس شرعية سياسية وأخلاقية؟
الشرعية لا تُشترى
قد تنجح سلطة محمود عباس في إسكات الأصوات مؤقتاً، وقد تنجح في تجويع العائلات، لكنها ستفشل في تجويع الذاكرة. الشرعية لا تُشترى بقرارات مالية، والدول لا تُبنى بقطع الرواتب، والنضال لا يُلغى بمرسوم.
هذه ليست معركة أرقام.
إنها معركة كرامة وحقوق.
ومعارك الكرامة لا تُحسَم لصالح من يخشون شعوبهم