عصر الابتزاز الأميركي
أكرم عطا الله
عصر الابتزاز الأميركي
الكوفية في العلاقات بين الدول ليس هناك أموال نقية من السياسة فالدول ليست جمعيات خيرية وأجهزة أمنها ليست مراكز لحقوق الانسان، وفي حسبة المصالح الكبرى ليس هناك حسابات لأرواح البشر ففي راوندي قتل ملايين كانت جثثهم تطفو على مياه الأنهار أمام كل عدسات الكون والتليفزيونات الأميركية ولكن لأن لا مصلحة لأحد هناك كان ما يجري كأنه أشبه بحفلة صيد للحيوانات في أحد برامج المساء المسلية.
لا أحد يعطي بلا ثمن ولا أحد يأخذ بلا مقابل وتلك معادلة جسدتها صراعات التاريخ وعلاقاته المعقدة، هكذا بنيت التحالفات والاصطفافات وقد لعب المال دوراً هائلاً في اسالة الدماء التي جرت في الحروب العالمية وكذلك في نهاياتها وقد شاركت الولايات المتحدة في حربين طاحنتين في أوروبا خلال نصف قرن وأخذت حصتها من خزائن الذهب الذي حملته السفن الأميركية التي عبرت المحيط غرباً كفواتير كان على أوروبا أن تسددها مقابل حسم الأنصار الذي صنعته أميركا لأوروبا.
دولة رأس المال ومنذ اقامتها لعب فيها المال الدور الأبرز في صناعة السياسة والثقافة وكل شيء تمكنت خلاله من الاطاحة بدول وشراء دول بل وتسيّدت العالم بلا منازع واذا كانت خلال العقود الماضية تستعمل ممكناتها الاقتصادية لصناعة محور أصدقاء مقابل الاتحاد السوفيتي على شكل اغراء لكن بعد سقوطه أصبح ما لديها يستخدم كإغراء مرة وكعصا ثقيلة مرة أخرى تعاقب من تشاء وتكافئ من تشاء.
الابتزاز الذي تمارسه الولايات المتحدة ضد الفلسطينيين ليس مستغرباً من قبل ادارة أصبحت تتبنى الموقف الاسرائيلي تماماً ومعتقدة أن حالة التحطم الاقليمي توفر بيئة مناسبة لإرغام الفلسطينيين على تقديم كل التنازلات اللازمة للمشروع الاسرائيلي لإنهاء هذا الصراع بما يضمن تحقيق كل المصالح الاسرائيلية وخصوصاً الملفات الأكثر تعقيداً: القدس، المستوطنات، اللاجئون.
ملف اللاجئين كان نتنياهو قد أشار له قبل ستة أشهر عندما اقترح على السفيرة الأميركية بالأمم المتحدة نيكي هايلي بانهاء دور وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين متذرعاً بأن لاجئي العالم بعشرات الملايين ولديهم المفوضية العليا للاجئين فلماذا يبقى للفلسطينيين هيئة خاصة، وها هي الولايات المتحدة توقف جزء من دعمها لوكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين واذا كنا نعتقد بهذا التزامن بين تصريحات نتنياهو والسلوك الأميركي علينا من الآن فصاعداً مراقبة التصريحات الاسرائيلية لاستشراف السياسة الأميركية.
القليل من المال الأميركي كان يدخل لخزينة السلطة الفلسطينية لأن جزء منه كان ينفق على التدريب الأمني لرجال السلطة وذلك بهدف الحفاظ على اتفاق أوسلو الذي ساهم الحفاظ على واقع أمني كانت اسرائيل هي المستفيد الأول منه وفي ادامة الأزمة دون حلها موفراً للإدارات الأميركية المتعاقبة دوراً سياسياً وسطوة كبيرة والجزء الأكبر للمال كان ينفق على مشاريع تتعلق بالبنية التحتية وكذلك مؤسسات المجتمع المدني.
الاجراءات المالية الأميركية التي تهدف لتطويع الموقف الفلسطيني وارغامه على رفع رايته البيضاء وطنياً تعني أن البيت الأبيض قد أعلن الحرب على الفلسطينيين والخشية ألا تتوقف هذه الاجراءات عند الخزينة الأميركية بل يمكن أن يذهب التصعيد أبعد الى حد أن تقرر الولايات المتحدة بسطوتها على بعض الدول الداعمة للفلسطينيين للتوقف عن دعمهم وقد رأينا سيناريو كهذا سابقاً حتى أن بعض دول التمويل العربي توقفت عن دفع استحقاقاتها المالية للسلطة الفلسطينية.
هذه إن تمت لن تكون مشكلة كبيرة لأن في ذلك وقف دفع رواتب السلطة ورجال الأمن في الضفة الغربية وقد ينقلب ذلك سلباً على الأمن الاسرائيلي ومن هنا كانت توصيات المؤسسة الأمنية في تل أبيب بعدم معاقبة السلطة الفلسطينية لذا فإن السلاح الذي تستخدمه الولايات المتحدة ضد الفلسطينيين سيهدد تلك البنية التي أنشأتها واشنطن نفسها قبل ربع قرن في حديقة البيت الأبيض ما سيرغمها على التراجع وتلك معادلة يعرفها الفلسطينيون جيداً لذا كان الرد الفلسطيني يحتكم لتلك المعادلة عندما قال “القدس لا تباع بالفضة ولا بالذهب”.
النكتة المضحكة حقاً أن الولايات المتحدة الأميركية تبتز نظام حكم عربي ليدفع لها المال وبالمقابل تهدد نظام عربي آخر بحجب المال وعندما تمارس واشنطن ابتزازها للفلسطينيين لا نسمع أية دولة من تلك الدول النفطية تعلن استعدادها لتعويضهم مما تفقده الخزينة الفلسطينية لكن ما يأمله الفلسطينيون أن تستمر تلك الدول بدفع مساهمها وسط الحملة الأميركية الغاشمة.
لقد وصل الأمر بالإدارة الأميركية حد الاعلان عن نيتها فحص المناهج الفلسطينية إذا كانت تحرض على العنف كما أعلن مراقب الدولة الأميركي لويس دودارون وفي هذا أكثر من ابتزاز بل تريد الولايات المتحدة أن تستخدم سطوتها لأبعد من ذلك هذا الأمر لا يبدو عملياً نظراً للعلاقة المتوترة حالياً وان كان السفير الفلسطيني في واشنطن يتحدث عن تعليمات الرئيس بإعادة تصويب العلاقة لكن المسألة هنا تندرج في سياق انهاك الفلسطينيين نتاج الضربات المتواصلة على الرأس في عملية كي وعي تمهيداً لما هو قادم من عرض سياسي لدى هذه الادارة اصراراً عنيداً على المضي به متسلحة بما تملك من قوة، الأمر ليس سهلاً والقرار الفلسطيني لم يبحث خياراته أمام تلك العاصفة، لازال يعيش حالة الانتظار..!!!