نشر بتاريخ: 2020/04/25 ( آخر تحديث: 2020/04/25 الساعة: 02:48 )
عيسى قراقع

الأسير القائد كريم يونس.. 275 يوما في بدلة الإعدام

نشر بتاريخ: 2020/04/25 (آخر تحديث: 2020/04/25 الساعة: 02:48)

الأسير الفلسطيني ابن قرية عارة في الأراضي الفلسطينية المحتلة 1948 كريم يونس يقضي 38 عامًا في سجون الاحتلال الاسرائيلي، وهو أقدم أسير يقضي أطول فترة زمنية خلف القضبان، وخلال هذا الوقت الطويل تغيرت الاحوال والاتجاهات والسياسات، جاء قادة وذهب آخرون، تغيرت الامكنة والاسماء واللغات والعقول، لكن السجن لم يتغير كعلاقة بشعة على بقاء اطول احتلال في التاريخ المعاصر، البرش هو البرش، الأصفاد هي الاصفاد، القضبان وصراخ التعذيب، الأسلاك والنوافذ الموصدة، رائحة الهواء الرطب، السماء البعيدة والذكريات البعيدة.

ذاكرة كريم يونس احتشدت بالشهداء الأسرى، بالداخلين الى السجن وبالخارجين، السجان هو السجان، الوجع اليومي والحنين، الصور الاولى، الطيور وقطرة الحليب وبئر الماء، المدن والقرى والبساتين والظلال، والدته العجوز المقعدة وصوت حبات المسبحة بين اصابعها وهي تعد الايام والسنين وتزفر طويلاً طويلاً بالدعاء.

ثمانية وثلاثون عاماً مرت، صدئ الحديد وتعفن الجدار ويئس الجلاد، جربت حكومة إسرائيل كل قوانين البطش والخنق والقمع ووسائل شطب الهوية النضالية للإنسان الأسير، في كل مرة يظهر وجه كريم يونس العنيد، يحمل عتاده الانساني وذخيرته النضالية والأخلاقية، يحمل آلامه وارادته ليهزم الليل والغياب، يرى ما لا يرون، يرى شمساً في السجن وخلف الظلمات.

ثمانية وثلاثون عامًاً مرت على جسد مخلوق من كبرياء وشموخ، وبرغم مرور أكثر من مائة عام على وعد بلفور المشؤوم، وأكثر من سبعين عاما على النكبة وأكثر من خمسين عامُاً على الاحتلال الإسرائيلي وأكثر من خمسة وعشرين عامُاً على اتفاقيات أوسلو، وبرغم التضخم العسكري والاستيطاني الإسرائيلي وبناء السجون، فأن دولة اسرائيل لاتزال تسمع من يدق على الجدران وأبواب الحديد، ولا تزال مشغولة بالحراسات والتشديدات الامنية الى درجة الجنون، لم تتوقف الدقات والأنفاس، هناك من يمر من الف باب وباب، هناك من يشعل الجوع في الإضراب، هناك من يحرر السجن من داخله، ويبقى السجان مقيداً في الزمان والمكان.

كم حربًاً تحتاج دولة اسرائيل لتنتصر على كريم يونس؟ كم شهيداً ستقتل؟ كم أسيرًاً ستعتقل؟ كم بيتاً ستهدم؟ كم جريحاً ومبعداُ وسجناً ومستوطنة؟ لم يختف كريم يونس من الوقت، أكثر من 15 فردًاً من أبناء أخواته وأخوته ولدوا خلال 38 عامًاً، وكبرت العائلة، فاختنق الاسرائيليون في الديموغرافيا وأسرار النطف المهربة.

حكم على كريم يونس وزميله ماهر يونس عام 1983 بالإعدام شنقاً وبمصادقة وزير الدفاع الاسرائيلي موشي ارنس، ورئيس هيئة الاركان رفائيل ايتان، ألبسوهما بدلة الإعدام الحمراء لمدة 275 يوماً، حبل المشنقة يتدلى في سجن نيسان بالرملة حيث كانا يقبعان، الحبل يشد على الرقبة، الحبل يتحرك ببطء مع عقارب الساعة، الموت يرقص في تلك الزنزانة الخاصة المعزولة التي حشرا فيها، الموت يذهب ويجيء، يسهر الموت فوق الكتفين وقدام الباب وعلى العتبة.

275 يوماً في بدلة الاعدام، كريم يونس مربوط بالجنازير من يديه وقدميه، على مدخل الزنزانة تواجد 12 شرطياً وضابطاَ ينتظرون قدوم الموت ليحتفلوا ويستمتعوا بالجريمة، حالة طوارئ واستنفار غير مسبوقة في تل ابيب، الحراسة مشددة، لن يهرب الموت او يخطئ، الموت جاهز ومستيقظ ولا ينام، الموت واقف كالظل لا يفارق كريم، الموت هو الزائر الوحيد القادم، سيأتي الساعة الخامسة، سيأتي الساعة السابعة،سيأتي ربما الآن، ربما ظهرًاً،ربما في منتصف الليل، الموت يأتي بسرعة لا صوت له سوى الغرغرة، الحراس ماتوا كثيراً وهم ينتظرون قدوم الموت، يتساءلون لماذا تأخر الموت؟ الرجل الذي سيموت يبتسم في وجوهنا كأنه يرى ما بعد الموت حياة.

275 يومًاً في بدلة الاعدام، دولة إسرائيل متأهبة لتنفيذ الجريمة، ولكن ما هذا الرجل الذي يفك عن رقبته حبل المشنقة، القدس انتفضت بين يديه، صنوبر الكرمل تحرك بين عينيه، والدته هبت عن كرسيها المتحرك واقفة، فاض البحر المتوسط، أمواجه عالية، دولة اسرائيل بعد 38 عاماً قلقة ومسيجة وخائفة.

 

ربما سمع الجلادون في تلك الليالي صوت كريم يونس وهواجسه وهو يردد ما جاء في رواية ثورة المشنوقين للكاتب ترافن: اذا كانت حياتي لا تساوي شيئاً، واذا كنت اعيش في السجن اسوأ من حيوان، فلم افقد شيئاً ان تمردت وثرت على ذاك الذي شنقني.

275يومًا في بدلة الإعدام، الانتظار كان هو الموت، من ينتظر أكثر يعيش أكثر، الاسرائيليون لم يستطيعوا الانتظار، بدأوا بتنفيذ الإعدامات الميدانية دون محاكمة في الشوارع وعلى الحواجز والارصفة، وصار الإعدام قانوناً مشرعاً في الكنيست الاسرائيلي، تتدلى حبال المشانق من أروقته في تقديس للموت والقتل والكراهية المقيتة، كلهم يهتفون: الموت للعرب، الموت للأسرى، يحترقون في عنصريتهم ويدعون انهم ضحايا المحرقة.

275يوما في بدلة الإعدام، وقد أصبح الإعدام مفتوحاً على النسيان والمجهول باصدار أحكام المؤبدات الجائرة على المئات من الأسرى والأسيرات، وانقضت حكومة الاحتلال على حقوق الأسرى بسن تشريعات عدائية وعنصرية وبشكل غير مسبوق، وشكلت ما يسمى لجنة اردان، لتضييق الخناق على الأسرى وتشديد الاجراءات عليهم، وسلبهم لكافة حقوقهم الانسانية والمعيشية، يعتقد الاسرائيليون أن الإعدام يبدأ بإعدام الكرامة، وتجريد الأسرى من آدميتهم وانسانيتهم، ويعتقدون أنهم قادرون على إخماد نشيد الحرية في السجون: نعم قد نموت ولكننا سنقتلع الموت من ارضنا.

275 يوماً في بدلة الإعدام، صار حبل المشنقة غصن شجرة، ارتداها كريم يونس في عيد الميلاد، خلع البدلة، قفز عن السور، بدأ عاماً آخر، ها هو يقرع الأجراس في الساحة، يعلن إضراب الحرية والكرامة، لن نستسلم فأما النصر او الشهادة.

275 يومًاً في بدلة الإعدام، كانوا يرونه قنبلة، وكان يراهم دولة عسكرتارية استبدادية تمارس الجريمة والخطايا المنظمة، كانوا يرونه تهديداً وجودياً على اسطورة ارض الميعاد، وكان يراهم عابرين غزاة فوق دبابة ومذبحة.

275يوماً في بدلة الاعدام، الحبل ينفلت عن رقبة كريم ويشتد على رقبة دولة اسرائيل، دولة الابرتهايد في المنطقة، دولة يقودها التطرف القومي والديني، دولة لم يعد فيها أي مظهر لمجتمع مدني وديمقراطي، دولة تنحدر الى الفاشية وحبل المشنقة.

275 يومًاً في بدلة الإعدام، وبتوقيت فلسطين والقدس، دخل كريم يونس عامه الجديد حياً حراً سيداً، في يده اليمنى عكازة أمه العجوز، وفي يده اليسرى عكازة حياته المقبلة.

تحية لكريم يونس من الشعب الفلسطيني الذي يواجه بشجاعة وباء الكورونا البيولوجي ووباء الاحتلال السياسي تحية في يوم الاسير للرجل الرمز الخندق والجامعة والمدرسة والمقاومة.