نشر بتاريخ: 2020/09/08 ( آخر تحديث: 2020/09/08 الساعة: 07:28 )
زياد خدّاش

خارج إطار اللوحة

نشر بتاريخ: 2020/09/08 (آخر تحديث: 2020/09/08 الساعة: 07:28)

(1)

حدثان غيّرا حياتي في جامعة بيرزيت:

اكتشافي لعالم (انطون تشيخوف) في مكتبة الجامعة حيث الإنسان المسكين التائه والغريب عن ذاته والمتفاجئ بنفسه. وجملة قالتها لي بنت جميلة جداً أثناء تظاهرة جامعية داخل الجامعة القديمة: «عجيب أمري؛ كيف أشعر أنني أحبك رغم أنك خارج فصيلي الحزبي؟».

كلا الحدثين قاداني إلى نفس الحكمة: الحياة الحقيقية هي خارج الثوابت.

(2)

ماذا أقدّم لك يا امرأة لا أعرفها تعزف لي على بيانو في بيتها ظهيرة كل جمعة؟ أصحن توت ممتلئاً؟ أم روايةً صغيرة (لكوينزي) أم وعداً مني لنص لك أسميه: أصابع من بيانو وجمعة؟ هل أنت موجودة؟ أم أنتِ الابنة الوحيدة لزواجٍ متين بين امرأة اسمها الذاكرة ورجل اسمه الحزن؟ أتعزفين حقاً لي؟ أنا الذي يسكن في فكرة غياب تحت بيتك -عزفك تماماً، أم لسؤال وجود آخر هشّم الأرقام والجواب؟ أم لحبيبٍ بعيد كسر عينيك والذكريات والنافذة؟ أم لفراغ رهيب يسكن البيت والقلب والوطن؟

(3)

أهبط شارع البريد، لا أحد يسلمني رسالة.

أصعد شارع المتنزه، لا أطفال بانتظاري.

أقف في شارع (الحسبة)، لا أحد يمنحني برتقالة.

أجلس على سور في شارع المستشفى، لا جثة تقول لي: مرحباً.

أتكئ على رصيف في شارع المتنبي، لا قصيدة تظهر، لا صهيل يأتي.

أعود إلى البيت، أتمدد على سريري.

أحلم بطفل يحمل الرسالة، الطفل الناجي الوحيد من المجزرة، الطفل الذي يركب الآن حصاناً مسرعاً، الطفل الذي يحلم بأن يصير شاعراً يكتب عن الجثث والبرتقال.

(4)

في مذكراته التي عُثِرَ عليها بعد انتحاره، كتب شاعرٌ شهيرٌ من جيل التسعينيات: «بشكلٍ شبه يومي أصل إلى مكتبي في السابعة والنصف صباحاً، يكون مديري واقفاً على الباب بوجهٍ متعجرفٍ ويدٍ مهيأة للتلويح: يا بني آدم، قلت لك ألف مرة، أكتب قصائدك في البيت، هنا أنت إداري وعليك واجب التركيز».

«ماذا حدث أخبرني؟» سألته، «أنت البارحةَ لم تكن مركّزاً حين زار المسؤول الكبير مديريتنا في الوزارة. كنتَ سارحاً ومشوشاً ولم تجب عن أسئلة المسؤول». ولم أستطع أن أجيبه حين قال لي: «قل لموظفيك أن يتركوا حياتهم الشخصية بما فيها الأدب والقصائد في البيت».

وكأن الموضوع يشبه المسلَّمة أو اللَّازمة، ثمة برمجة غريبة في المشهد، ثمة ثوابت وقواعد، في كل وزارة حكومية ثمة مبدعون وفنانون ونشطاء ضمير وذهن، يتم إخافتهم وإذلالهم وإقصاؤهم بشكل مركز ومقصود، هل وقعتُ في عقلية المؤامرة؟ هل أنا مريض بالشك؟ أليس ثمة استثناءات هنا وهناك؟ أبداً والله لا يوجد، لا تتحمل الوظيفة الحكومية مزاج شاعر أو رسام، هناك تنافرٌ عجيبٌ بينهما وكأنهما وُلدا هكذا، الكينونتان بالفعل متضاربتان، الشاعر كتلةٌ من المشاعر والأحلام، والوظيفة الحكومية جبلٌ من الحسابات والمصالح. الشاعر لا يضمر للعالم سوى السلام، وهي لا تخبئ للعالم سوى القشور والدعاية والكذب والقتل الداخلي.

 

عن الأيام