نشر بتاريخ: 2020/10/04 ( آخر تحديث: 2020/10/04 الساعة: 05:04 )
عادل الأسطة

طالت نباتات البعيد: نيويورك منفى للفلسطيني

نشر بتاريخ: 2020/10/04 (آخر تحديث: 2020/10/04 الساعة: 05:04)

وأنا أطوي الأيام تظل بعض أسطر لراشد حسين وأخرى لمحمود درويش، تلح على الذاكرة.

غادر الأول فلسطين وظل يحن إليها حتى وهو في نيويورك التي عدها بعض الناس جنة الدنيا:

"طلبت الطب في نيويورك أطلب منه مستشفى، فقالوا:

- أنت مجنون ولن يشفى، أمامك جنة الدنيا

ولست ترى سوى حيفا".

ومات في نيويورك، وفي رثائه كتب درويش:

"في الشارع الخامس حياني بكى

مال على السور

 الزجاجي:

ولا صفصاف في نيويورك.

أبكاني".

مات راشد في شباط ١٩٧٧وبعد موته جرت مياه كثيرة في النهر.

في العام ١٩٨٢ خرج الفلسطينيون من بيروت مجبرين، وبعد خروجهم بأيام ارتكبت مجزرة شاتيلا، وساح قسم من الناجين في هذا العالم، واتسعت رقعة المنفى وطالت مدة الإقامة فيه، ما جعل درويش يكتب:

"طالت نباتات البعيد، وطال ظل الرمل فينا وانتشر

طالت زيارتنا القصيرة..".

تصبح نيويورك، لا لندن، مربط خيولنا، لا في الأدب الفلسطيني وحسب، بل وفي الرواية العربية.

في العام ٢٠٠٩، نشر واسيني الأعرج روايته "سوناتا لأشباح القدس"، واختار لها هو الجزائري الذي لم تطأ قدماه القدس قبل ٢٠٠٩ شخصية فلسطينية اضطرت ووالدها قبل النكبة إلى الهجرة، خوفاً من العصابات الصهيونية التي تسعى وراء الأب لقتله بحجة علاقته بالنازية لعلاقته بالألمانية (إيفا موهلر)، وهكذا تجد مي نفسها في أميركا  وتظل فيها إلى أن تصاب بالسرطان وتموت بمشفى نيويورك المركزي في الأول من كانون الثاني ٢٠٠٠.

كانت مي حسن الحسيني طفلة يوم هاجرت، وفي أميركا تغدو رسامة مشهورة ولا تغيب القدس عن ذاكرتها، فأميركا تظل لها منفى.

تحضر نيويورك في رواية جنى فواز الحسن "طابق ٩٩". الفلسطيني مجدي يقيم في مخيم شاتيلا، وكان عمره يوم ارتكبت المجزرة خمسة عشر عاماً، تماماً مثل عمر أبيه في عام النكبة. اضطر الأب إلى ترك قريته والهجرة إلى لبنان وهناك درس اللغة العربية وصار معلماً في مدارس "الأونروا"، وفي المجزرة قتلت زوجته ونجا هو وابنه مجدي وهاجرا تاركَين لبنان، وفي المنفى يموت.

تحمل الأب قسوة المنفى في البلاد العربية، وصار هاجسه الوحيد أن يمضي بابنه إلى بلاد أخرى "كان يخبر الأصدقاء أنه اكتشف أن ما وجده هنا، بين الميليشيات المسيحية والقيادات العربية، يفوق كراهية الصهاينة للفلسطينيين".

في نيويورك يقيم مجدي، الذي أحب هيلدا المسيحية ابنة أحد قيادات الكتائب، في طابق ٩٩ من عمارة عدد طوابقها ١٠٢، لأنه صار يمني نفسه بأن يقف على قمة البرج أو المبنى لينتمي إلى الأعلى ولتبقى البلاد كلها "في الأسفل" و"بيروت وفلسطين التي لم أعرفهما". ومن مكتبه الواقع في طابق ٩٩ بدا المخيم غير موجود وبدت فلسطين كبلاد ضائعة في الزحام "بلاد لن يبلغني نداؤها، إن تجرأت على مناجاتي"، وكان مكتبه "المكان الذي أمارس فيه سلطتي، حميماً وأليفاً، ومتعجرفاً ومتسلطاً في وقت واحد، وإن كنت قد فشلت في الاعتناء بأثاث المنزل، اختلف ديكور مكان العمل كلياً".

في رواية إلياس خوري "أولاد الغيتو: اسمي آدم" لا يهاجر آدم ومراد العلمي في تموز ١٩٤٨، ويظلان في المدينة يعانيان من قسوة الحياة فيما عرف بغيتو اللد، ولكنهما مع مرور الوقت يغادران البلاد كلها ويستقران في أميركا، تحديداً في نيويورك.

تصبح نيويورك مستقراً لراشد حسين، وفي مشفاها تموت مي الحسيني، وفيها يموت آدم ويقضي مراد العلمي فيها بقية حياته.

اللاجئون الناجون من شاتيلا، والباقون على أرضهم ممن ضاقت بهم الحياة، يجدون في نيويورك مأوى لهم، وفيها يقيمون مجبرين مضطرين، وقسم منهم لا يرى فيها جنة الدنيا ويظل يحن إلى بلاده، وقسم آخر ممن ولد في المنفى، مثل ابن مي الحسيني يوبا، ومثل مجدي، لا يشعر برابطة نحوها، فيوبا الذي لم ير في حياته القدس إلا ثلاث مرات يعبر صراحة عن علاقته بها:

"أرض لم أعرفها من قبل ولم تعرفني إلا من خلال روايات جدي وأمي".

وفيما يظل والد مجدي مرتبطاً بوطنه يقل ارتباط الابن. يرد على لسان الأب:

"تسألني ما هو الوطن. هو أن تنتمي إلى هذه الحياة، ولكي تنتمي، لا يمكنك أن توافق على الظلم، وإلا فأنت تنتمي إلى عالمهم فحسب. ربما فلسطين ليست أجمل رقعة على الأرض، يا ابني، لكن كرامتنا هناك"، وأما مجدي فلم تكن مشكلته يوماً في فلسطينيته ولا في رغبته بالهرب منها أحياناً، "بل بكيفية التصالح مع ذاك الشعور بالانسلاخ عن مكان لا أعرفه ولا ذكريات لي فيه، عن أرض تسكنني وأنا لم أطأها يوماً".

هل كل أرض الله منفى؟ ربما هذا هو ما اكتشفه الفلسطينيون!!