ما بين ترامب وبايدن
سمير التقي
ما بين ترامب وبايدن
ما الذي قد يعنيه انتخاب بايدن أو إعادة انتخاب ترامب بالنسبة لسياسات الخارجية والدفاع الأمريكية؟
ما نحتاجه هو منهج تحليلي نزيه ومحاولة لصياغة رؤية بعيدا عن التوترات والحماس الحالي لكل من الطرفين. وللإجابة عن هذا السؤال للتعامل لابد أن نعود لبعض المؤشرات التاريخية لنكشف بعض المبادئ الحاكمة.
المبدأ الأول: هو أن الرئاسات غالباً ما تفاجئنا وتتحدى التوقعات. قد يعتمد الرئيس مسارا معينا سواءً خلال حملته الانتخابية أو تجاربه ووظائفه السابقة، ولكن بمجرد تولي المنصب، يميل الرئيس إلى أن يكون مختلفاً جدياً عن مساراته السابقة.
ثمة مثال معروف في هذا السياق والمتمثل في ذهاب الرئيس نيكسون إلى الصين. جعل نيكسون من عدائه للشيوعية هويته الطاغية كنائب للرئيس ومن ثم كمرشح. لكن سرعان ما فاجأ العالم، وفاجأ قبل ذلك المجتمع الأمريكي، بالذهاب إلى الصين في عام 1977، وحقق بذلك فتحاً استراتيجياً كبيرا ضد الخصم الشيوعي الرئيسي الا وهو الاتحاد السوفيتي.
المثل الآخر هو رونالد ريغان الذي كان متشددا بشكل كبير إزاء الاتحاد السوفيتي، ودعم بقوة الحشد العسكري النووي الصاروخي الأمريكي ضد الاتحاد السوفيتي، ولكن سرعان ما تفاجأ الكثيرون عندما صادق، في عام 1987 مع جورباتشوف، على معاهدة الحد من القوات النووية متوسطة المدى التي حظرت فئة كاملة من السلاح النووي. كما فاجأ ريغان الكثيرين مؤخرا حين قارن باراك أوباما كعضو في مجلس الشيوخ وكمرشح رئاسي بنفسه حين كان في الكونغرس.
بدوره فاجأ أوباما الكثيرين بتكريسه للتدخل الخفي عبر المُسيرات كبديل لمناطق الحظر الجوي.
وإذا عدنا أبعد للخلف سنجد أن العديد من الأمثلة. في الانتخابات الرئاسية عام 1916 عندما كان الرئيس وودور ويلسون يترشح لإعادة انتخابه، وكان برنامجه الرئيسي في عام 1916 هو “إنني أبقيت أمريكا خارج الحرب العالمية التي كانت مستعرة لمدة عامين ونصف العام في أوروبا”. في ذلك الوقت، كان ويلسون يتماشى مع الرأي العام الأمريكي المتمسك بإبقاء أمريكا خارج الحرب، وقال: “لقد حان الوقت لإعادة انتخابي وسأواصل إبعادنا عن الحرب”. وبعد ذلك ببضعة أشهر فقط من أداء اليمين، وبسبب التصعيد الألماني يشن حرب الغواصات المفتوحة ضد السفن التجارية الأمريكية التي تنقل العتاد للحلفاء، سرعان ما تراجع ويلسون وأدخل أمريكا في الحرب.
وفي سبعينيات القرن الماضي، تولى جيمي كارتر منصبه باحثًا عن بعض الخطط التصالحية مع الاتحاد السوفيتي، وعمل على إنجاز بعض صفقات الحد من الأسلحة بهدف تخفيض التوتر معه. ثم بعد الغزو السوفيتي لأفغانستان عام 1979، عكس مساره حيث أطلق برنامجا طموحا جدا لتعزيز القدرات الدفاعية كما دعم العمل السري لدعم المجاهدين ضد السوفييت.
حين ترشح جورج دبليو بوش لمنصب الرئاسة في عام 2000 ووعد بالذهاب إلى سياسة خارجية أكثر تواضعًا، بعيدا عن الشرق الأوسط، وعدم المغامرة في محاولة “بناء الدول”، ثم جاء 11 سبتمبر وكان عليه أن يقفز إلى الجانب الآخر.
المبدأ الثاني: في بعض الأحيان، قد ينتقد المرشح الجديد سياسات الرئيس الراهن، ثم، بعد فوزه، سرعان ما يبدل موقفه بحيث يستفيد من المواقف التي انتقدها وذلك بمجرد توليه المنصب.
التزم ريغان كمرشح رئاسي في أواخر السبعينيات بتحدي موافقة جيمي كارتر على معاهدة قناة بنما والتي أعاد فيها السيادة لبنما على القناة. لكن بمجرد توليه المنصب قام ريغان بعكس الوضع واستفاد من موقف كارتر لتحسين العلاقات الأمريكية مع أمريكا اللاتينية.
ومن الأمثلة المماثلة عام 1979 عندما أنهى كارتر الاعتراف الدبلوماسي الأمريكي بتايوان وحول الاعتراف الدبلوماسي إلى الصين، كان لدى المرشح ريغان وجهة نظر نقدية شديدة للغاية، ولكن بمجرد أن أصبح رئيسًا سرعان ما انقلب على موقفه ذاته وشرع في بناء شراكة قوية جدًا مع الصين تستند إلى حد كبير إلى المصلحة الاستراتيجية المشتركة في مواجهة الاتحاد السوفيتي على حساب تايوان.
وبالمثل، انتقد بايدن قرار ترامب الانسحاب من الاتفاقات النووية للأسلحة متوسطة المدى، لكنه.. إن نجح، فمن المؤكد أنه سيتصرف من خلال الاستفادة الفعلية مما قام به ترامب بهدف ضمان تفوق الولايات المتحدة التي تحتاج إلى البدء في إعادة تطوير صواريخ نووية متوسطة المدى لنشرها في بلدان الناتو كجزء من عملية الردع المتصاعدة مع روسيا.
المبدأ الثالث: يتعلق بمحاولة إلقاء نظرة عامة على السياسة الخارجية الأمريكية على مدى السنوات الـ 75 الماضية. نستطيع هنا أن نؤكد أن الاستمرارية وليس التغيير هي الطابع الرئيسي للسياسة الخارجية الأمريكية المستندة إلى مبادئ وهياكل بيروقراطية راسخة.
إذًا، نحن بحاجة إلى وضع هذه المنطلقات الأساسية بعين الاعتبار بسبب حقيقة أن جوهر السياسة الأمريكية تصنعه المؤسسات العديدة المتشاركة في صناعة القرار. نحن مثلا لا نتوقع علي الإطلاق أن يعيد بايدن السفارة الأمريكية في إسرائيل إلى تل أبيب، رغم أنه انتقد ترامب على ذلك. كما كان بايدن ينتقد عملية قتل قاسم سليماني لكننا نتوقع أن بايدن سيحاول البناء على ما تم إنجازه على عدة مستويات فيما لو نجح.
تبقى الرئاسة مهمة بالتأكيد في صناعة القرار. بل يمكن أن يكون للرؤساء تأثير كبير على تجليات هذه السياسة الخارجية ولكنهم يرثون أيضًا مجموعة من الهياكل والقيود والثقافة والأدوات.
يمكننا في هذا السياق استنتاج بعض المبادئ الرئيسية التي تحكم هذه السياسات:
أولاً: ضمان استمرار قدر محدد من الصراع بين الدول بشكل مضبوط وقابل للسيطرة في ظل ما يسمى بـ Pax-Americana (السلم الأمريكي).
ثانياً: ضمان تموضع الدولار الأمريكي في الاقتصاد العالمي كعملة مهيمنة.
ثالثاً: المحافظة على قدر من الأسبقية الأمريكية في التفوق التقني والبشري – الديمغرافي.
رابعاً: ردع المنافسين الكبار. ذلك أن الولايات المتحدة ستحاول دوماً المحافظة على تفوقها الاستراتيجي العسكري على أية دولة أخرى.
خامساً: التزام أمريكي عام بضمان حرية الملاحة والتجارة في الممرات البحرية “الزرقاء” (أي في أعالي البحار) والسيطرة عليها، وتسهيل التجارة الحرة، والقدرة على السفر من دون قرصنة، وقبل كل شيء بعيداً عن سيطرة أي قوة منافسة أخرى.
سادساً: منع سيطرة قوة معادية على مناطق برية رئيسية خاصة تهدد التوازن الاستراتيجي الدولي في الشرق الأوسط أو الكتلة الأرضية الأوروبية الآسيوية. وهنا يحتل وسط آسيا موقعاً متميزاً.
سابعاً: تسعى الولايات المتحدة إلى موازنة القوى السائدة على كل إقليم والتعاطي مع مجموعة واسعة من التناقضات مع اللاعبين الإقليميين طالما أن هذه القوى تعمل ضمن الهوامش المقبولة في إطار “السلم الأمريكي”.
ثامناً: يبدو أن الالتزامات الأمريكية التي تشجع نمو السوق الحرة والديمقراطيات في جميع أنحاء العالم ستبقى تصعد وتهبط ضمن أولويات السياسات الأمريكية. حيث يمكن في بعض الأحيان أن يكون التركيز عليها أكثر وأحيانًا بدرجة أقل لأن عقل المؤسسة الأمريكية يبدو مفطوراً بشكل ثابت على هذه المبادئ.
وفي حين أن هناك العديد من الأشياء التي تجعلنا نعتقد أن السياسات الأمريكية غير مستقرة بسبب ما يعكسه الاستقطاب الحزبي من اضطراب إعلامي، قد يقودنا إلى المبالغة بالاختلافات. فإن حقيقة الأمر أن هذه الاعتبارات لم تتعرض للتغيير من قبل الرؤساء والإدارات المختلفة بل إنها نمت وتطورت بناءً على رؤية مؤسسات الأمن القومي والمؤسسات المشتركة في صنع القرار في أمريكا بما فيها وزارة الخزانة.
إذًا ما مدى أهمية الرئاسة حقا؟
من المفيد أن نلاحظ جملة من العوامل والشروط التي تحدد هوامش أي رئيس:
أولاً: تتمتع الوكالات البيروقراطية المختلفة بقدر كبير من السيطرة على الخيارات التي تطرح أمام الرئيس.
ثانيًا: في نمط الإدارة الفردي تفقد عملية اتخاذ القرار الكثير من تلويناتها وتمايزاتها الطفيفة والمهمة.
لكن الرئاسة لها أهمية استثنائية في صياغة الأداء العملي. حقيقة الأمر أن الرئيس يتمتع بقدر كبير من التأثير والقدرة على تشكيل عملية صنع القرار. حيث يكون لدى ترامب أو بايدن مقاربات مختلفة في عملية آلية اتخاذ القرار.
من المحتمل أن يعتمد بايدن آلية أكثر منهجية ورسمية وأكثر تشاركية في العمل بين الوكالات المختلفة، وهو تقليد رسخه أيزنهاور بشكل واضح. حيث أسس أيزنهاور نهجاً أكثر تنظيماً يتيح لجميع الجهات الفاعلة مقاعد على طاولة القرار وليس فقط إبان اجتماعات مجلس الأمن القومي.
يسمح هذا التنوع في إدارة التناقضات، بالتنسيق بين التوجهات المختلفة للمؤسسات، وبتوفير طيف ملون من الخيارات والمحاذير أمام الرئيس ومنحه نطاقًا أوسع من آليات صنع القرار.
لذلك يمكن للرئيس أن يخفف من وقع بعض هذه العواقب غير المرغوب فيها أو غير المقصودة. لكن هذه الآلية تحتاج إلى عمل شاق للغاية لإدارة الاختلافات وبلورة المفاهيم.
بالمقابل فإن أسلوب ترامب بحصر النقاش ضمن دوائر صغيرة والاعتماد على آليات انتقائية آنية لتكوين فرق العمل الضيقة المتغيرة، تسمح بتحقيق صناعة قرار جريئة مندفعة في كثير من الأحيان وخاصة في الحالات التكتيكية الطارئة.
لكن هذه الآلية تفوِّت الكثير من الترابط بين الأفعال التكتيكية والرؤى الاستراتيجية المفترضة. كما أنه من أهم عيوب هذا النمط من صناعة القرار هو الوهم الذي يخلقه لدى صناع السياسة الفرديين بأنهم يستطيعون ببساطة قلب الموازين من خلال ضربات فروسية مشهودة. والأهم من ذلك هو أن هذا النمط من اتخاذ القرار يطرح صعوبات جمة أمام منفذي القرارات نتيجة نقص حساسية القرار للمتغيرات.
كما أن هذه الآلية ساهمت في تضخيم العمل الورقي المتبادل بين مختلف الوكالات بسبب النقص الشديد في اللقاءات المباشرة، حيث تضع إحدى الوكالات إطارًا لمشكلة ما، وتضع الإيجابيات والسلبيات، ثم ترسلها للتشاور بشكل مكتوب، وبعد ذلك تتاح لكل قسم فرصة تقييم الورقة بشكل مكتوب دون الحاجة إلى الذهاب إلى الاجتماع الذي يبسط الأمور كثيرًا ولكنه أيضًا يلغي الكثير من التفاصيل وتترك هذه الآلية بالتالي الكثير من “نقاط العمياء” التي قد يسببها غياب التواصل المباشر.
عن الشرق الاوسط