نشر بتاريخ: 2020/12/09 ( آخر تحديث: 2020/12/09 الساعة: 07:22 )
بديعة زيدان

"سفر برلَك" لمقبول العلوي.. شيء عن العبودية في الحجاز العثمانية!

نشر بتاريخ: 2020/12/09 (آخر تحديث: 2020/12/09 الساعة: 07:22)

في ظل حالة الفوضى والفلتان التي سادت في الأراضي الحجازية، إبان سنوات ضعف الخلافة العثمانية، التي بدأت ترتخي قبضتها كحال "الرجل المريض"، وهو اللقب الذي أطلق عليها، في تلك الفترة المحيطة بالحرب العالمية الأولى، اختطفت إحدى العصابات المنتشرة الطفل "ذيب" وخاله من أطراف مكّة، ليباعا في سوق للنخاسة في المدينة المنورة، هما وغيرهما، خاصة أن "ذيب" هذا من ذوي البشرة السوداء كما والدته التي كانت جارية نوبيّة أورثته ملامحها، قبل أن يعتقها ويتزوجها والده الذي هو من أعيان اليمن.

شكّلت هذه الحادثة، مفتتح ومحور رواية "سفر برلك" للروائي السعودي مقبول العلوي، الصادرة عن دار الساقي في بيروت، وهي الرواية التي كانت من بين روايات القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) العام الماضي، واختيرت واحدة من بين الأعمال المتنافسة على جائزة الشيخ زايد للآداب بوصولها، قبل أيام، إلى القائمة الطويلة لهذه الجائزة.

وسار العلوي في خطّين متوازيين، الأول يتعلق بالحديث عن العبودية، ومآسيها، بفيض من التفاصيل الموجعة، والثاني عن الظروف السياسية بالدرجة الأولى في تلك المرحلة، ما يجعل منها رواية تاريخية أيضاً.

ويُلاحظ أن العلوي كان انتقائياً في منح مساحات ربما لا تتناسب وطبيعة الحدث المفصلي في تلك الفترة، فمنح الهامشيّ منها أحياناً أكبر مما تستحق، وهمّش المحوري، كما حدث فيما يتعلق بمفجّر الثورة العربية الكبرى، التي هي محور أساسي في الرواية، بحيث لم يتطرق حتى لذكر اسمه، او اسمي ابنيه وأعني هنا الشريف الحسين بن علي وابنيه الأميرين عبد الله وفيصل، بل اكتفى بالقول "لقد أعلن شريف مكّة وولداه الثورة العربية على الحكم العثماني"، وتعمّد تغييبهم اسماً بشكل كامل، ووصفاً إلا في حالات نادرة، وربما هذا مرّده أسباب سياسية تتعلق بطبيعة العلاقات الشائكة ما بين مفجر الثورة العربية الكبرى، وما بين حاكمي تلك الجغرافيا الحجازية الآن.

وبالعودة إلى "ذيب"، والمآسي التي مرّ عليها، ولو مراقباً، ومرّت عليه وعلى غيره من العبيد المفترضين، في الطريق ما بين مكة والمدينة المنورة، من قتل وضرب واغتصاب وتعنيف وإهانات بالجملة، فإنه وبعد أن بات أن ابتاعه من سوق النخاسة، "الوجيه عبد الرحمن المدنيّ"، وهو من الشخصيات المقدرّة في المدينة المنورة، لكونه مثقفاً وقارئاً وباحثاً، وأراده موظفاً لإجادته القراءة والكتابة، وكان يعامله تبعاً لهذا التصنيف، وليس باعتباره "عبداً" لديه.

ومع إعلان الثورة العربية الكبرى، تنقلب حال المدينة المنورة رأساً على عقب، وذلك بفعل بطش الجيش العثماني بسكانها، حتى أنه عمد إلى تهجير الكثير منهم بشكل قسري إلى بلاد الشام.. وكما انقلبت حال المدينة، انقلب حال "ذيب"، والذي وقع أسيراً لدى "العصملي" مُهجّراً إلى دمشق، بينما كان ذاهباً بمخطوطات نادرة من المدنيّ إلى المكتبة، فيما عُرف بـ"سفر برلك"، في إحالة إلى تأويلات متعددة لهذا التوصيف لدى الشعوب العربية المختلفة، فـ"سفر برلك" في بلاد الشام كان غيره في الحجاز على ما يبدو، وإن كان المشترك هو "البطش العثماني" تجاه الشعوب العربيّة مسلمين ومسيحيين.

"صرختُ من الرعبِ حينما تذكرتُ ما حدث لي منذ سنتين. كنتُ أقول لهم: ماذا تريدون منّي؟ دعوني وشأني؟. لكنهم لم يفهموا شيئاً مما أقول. لم يكونوا يجيبونني إلا صارخين في وجهي بكلمتين: (سفر برلك)... (سفر برلك).. سمعت سيّدي يذكر هاتين الكلمتين حينما كان يتحدث مع أصحابه، ولكنه كان يقول معها كلاماً مفهوماً من قبيل: هم يخطفون الناس، ويُرسلونهم إلى الشام في (سفر برلك).. حينما تذكرت هذه الكلمات، وربطت بينها وبين ما تعنيه، أدركتُ مدى حظي التعيس. يا إلهي!".

وبعد اندحار الجيش العثماني من المدينة المنورة، يتمكن "ذيب" من العودة مجدداً إليها، باحثاً عن سيّده عبد الرحمن، ليخبروه أنه باع كل متاعه وهاجر إلى مكة حيث ابنته، وهناك يعثر على المدني، وعلى والدته النوبيّة، ليدرك أن خاله سقط مقتولاً بيد العثمانيين حينما حاول الفرار من الأسر.

وينهي العلوي روايته هذه باستعراض سريع لمصائر شخوصها المحوريّين من عرب وأتراك، بإقفال محكم، بحيث اعتلى اسم كل من هذه الشخصيات مصيره الذي لخصه الروائي في فقرات قصيرة ومتتابعة، كحال "إبراهيم أفندي"، و"الجارية مرجانة"، و"فخري باشا"، و"مانع"، و"الوجيه عبد الرحمن المدني".

ويكشف الروائي السعودي، في نهاياته هذه، عن أن "ذيب" ليس مختلقاً تماماً، بل هو تشكيل روائي لشخصية كانت ذات يوم حاضرة في تلك الحقبة التاريخية بمآسيها.

"ترك ذيب ذريّة مكوّنة من بنتين وولد واحد اسمه عبد الرحمن. الجدير بالذكر أنني قد عملتُ زميلاً لشاب من أحفاد ذيب في واحدة من المدارس النائية التي تقع بين جدّة والمدينة المنوّرة، وقد تزاملنا مدّة عامٍ واحد في 1992، أول سنة لي أعمل فيها معلماً (...) وقد أخبرني بنتفٍ من قصة جدّه ذيب، وهو اسم مستعار بكل تأكيد للضرورة الروائية والاعتبارات الشخصيّة، تلك القصة التي رويتُ لكم جزءاً منها في هذه الرواية مع إضافة الخيال الروائي بالطبع، هي في الكثير من أحداثها كان ذيب يحكيها قبل موته لأولاده، ثم حكاها الأولاد للأحفاد فيما بعد، كما قال لي حفيده".

ويمكنني القول، إن الرواية التي اكتفى صاحبها بسردها على امتداد ما يقارب المئة وستين صفحة، وبحكم أهمية الحقبة التاريخية، والثيمة الأساسية، وأعني العبودية في الحجاز، كان يمكن أن تتسع بحيث تقدّم المزيد في كلتي المنطقتين المتوازيتين للرواية، ما كان من شأنه إغناؤها، وتقديم المزيد حول تلك الجوانب الخفيّة للكثيرين، عمّا يمكن وصفه بالسنوات الأخيرة للحكم العثماني أو الاحتلال "العصملي" للبلاد العربية، وفي حالة "سفر برلك" بنسخة مقبل العلوي، في الأراضي الحجازية على وجه الخصوص.