لا نعلم إن كان د. صائب عريقات، يحتاج الى المزيد من الشرح، عن تاريخ وأفاعيل رجل الأعمال اليهودي الأمريكي، رون لاودر، الأشد صهيونية وتطرفاً من صديقه نتنياهو، وقد أختاره ترامب، لكي يعرض على د. صائب ما يسمة "صفقة القرن". الرجل يترأس الآن "المؤتمر اليهودي العالمي" ولم يسبقه أي رئيس لهذا المؤتمر في تطرفه وفي موالاته للأوساط الأشد عنصرية في "الليكود". لقد وقع اختيار ترامب عليه، لأن أهم ما بينهما من مشتركات، هو الغرام العميق لكليهما بنتنياهو، وبالتالي فإن "لودر" لا يصلح ناقلاً رسالة تتعلق بمقترحات للتسوية. ولو كان د. صائب قد وافق على اللقاء به، فإنه يرتكب خطأً سياسياً ينم عن خفة وجهل!
مشكلة أعضاء الفريق الذي يعمل مع عباس، أنهم لا يقرأون، علماً بأن صائب أوفرهم على القراءة. أما الباقون فإنهم العناصر الكاريكاتيرية، التي إن حمل واحدها ملفاً ذا علاقة بقضية شعب؛ سوف يسخر المحتلون ويتندرون، ويرون مهمتهم نوعاً من التسلية والدعابة.
مذكرات كثيرة، نشرت، كانت الواحدة منها كفيلة بتعليم عباس ومن معه، أنهم لن يأخذوا شيئاً من العدو بالتودد وبالتنسيق الأمني وبالتدمير الممنهج للاجتماع السياسي وللثقافة الوطنية. فكل مذكرات الشخصيات التي شاركت في لقاءات مع الإسرائيليين، خلصت بنتائج من شأنها أن تفيد عباس ومن معه، وتجعلهم يركزون على تعلية شأن التماسك الاجتماعي ووحدة الشعب الفلسطيني وتعزيز أسباب صموده. بل إن بعضها يفيد لإقناع عباس بمسألة مهمة لا تزال غائبة عنه، وهي أن العدو، لن يتردد في توجيه الصفعات للطرف الآخر الذي يجاري متطلباته الأمنية، ويزداد احتقاراً له، وعند اللزوم، سيوجه اليه عبارات صريحة ينحصر معناها في أن إسرائيل تخدمه شخصياً وتؤمن وضعه الخاص، وأن واجبه في النهاية هو أن يشكرها ويعترف بفضلها عليه وعلى عائلته.
يمكن أن تصلح مذكرات الكاتب السياسي اللبناني جوزيف أبو فاضل كمثال. فجوزيف رافق بشير الجميّل الى لقاء "نهاريا" مع مناحيم بيغن، وحضر اللقاء بين الرجلين وسمع عبارات الإهانة التي مُني بها شاب لبناني، وقف على تشكيل عسكري قوي وحدد له مهامات إسرائيلية. كان بشير، الذي تحول الى أشلاء بعد أيام من اللقاء (14 سبتمبر 1982) قبل أن يؤدي قسم الرئاسة اللبنانية التي حملته إسرائيل اليها؛ قد خاض معركة مناحيم بيغن في لبنان، وشق الساحة اللبنانية، وساند احتلال بلاده، وفعل كل كبيرة لأجل عيون إسرائيل. لكن الرجل فوجيء في لقائه مع بيغن، بأن حجمه لا يزيد عن حجم دُمية. فقد أسمعه بيغن بعض الشتائم من نوع جبان وجاحد ولا تستحق ما فعلناه من أجلك. لم يكن بشير الجميل يعاند وإنما ينصح بيغن الذي طلب معاهدة صلح وتحالف فوري بين لبنان وإسرائيل. قال بشير لمناحيم: "أنت في مقام والدي، انتظر قليلاً، ستكون هناك اتفاقية صلح مع كل لبنان، وأنا في هذه الفترة لا أستطيع أن أعطيك سوى الصلح الجزئي المتوفر أصلاً، بين بعض لبنان وإسرائيل. انتظر الصلح مع كل لبنان". لكن بيغن عَنّفه وركز على تذكيره بفضائل إسرائيل عليه، ووصفه بالجبن وقال له إنك لا تستحق ما فعلناه من أجلك، ما جعل الشاب اللبناني، الذي اختار القطيعة مع ثلاثة أرباع شعبه، يرد على بيغين قائلاً له: "لا يستطيع أحد في العالم أن يصفني بالجُبن". ولم يكن بشير يعلم أن الشجاعة عند بيغن، هي أن يتعرى تماماً في الخيانة!
اليوم، عندما يحمل رون لاودر حقيبته ويلبس ثياب الواعظين لكي يلتقي عريقات، فإن هذا يدل على المزيد من التردي في الأداء السياسي. ولدينا تجربة رون لاودر مع حافظ الاسد. في البداية ابتلع الأسد الطُعم، لندرة المعلومات عن لاودر، وتنقل الأخير بطائرته الخاصة بين تل أبيب ودمشق مع التوقف قليلاً في كل رحلة في قبرص. واستمرت مهمة لاودر بعد سقوط نتنياهو ومجيء باراك، ولما سمع الأسد من لاودر مقترحات عن إخلاء هضبة الجولان، تشجّع، ووافق في من حيث المبدأ، على لقاء سري مع إيهود باراك في مسقط، حسب رواية لاودر. لكن الاسد عندما اطلع على شروط وتفصيلات الإنسحاب الإسرائيلي من الجولان، ومن بينها انسحاب الجيش السوري الى ما وراء دمشق، طلب من مستشاريه المزيد من المعلومات عن الوسيط، فصدمته التفصيلات وتراجع.
إن لم يتتبع الممسكون بالملفات، كل التفاصيل، يفقدون بوصلتهم. فلا تكفي القراءة المجتزأة، ولا يكفي بالطبع التظاهر بالقراءة. ذات يوم، أثناء اجتماعات المجلس الثوري، شاهد كاتب هذه السطور، مذكرات هيلاري كلينتون، في يد د. صائب. قال له همساً:"هل قرأت كيف أن صاحبك هو الذي كان يتوسل الأمريكيون أن يضغطوا لتأجيل التصويت على تقرير غلادستون بشأن العدوان على غزة؟". أجاب صائب:"لا .. إن هيلاري تقول العكس". ففتح له العبد لله الصفحة التي ورد فيها القول الحقيقي لهيلاي"!
لا فائدة من انتظار شيء من الإحتلال ومن الأمريكيين. ولو نجح عباس في خنق غزة وتجويع أهلها لا سمح الله، فإنه لن يسمع مديحاً، وإنما سيقولون له إننا نحميك من غضبة الشعب، ويتوجب عليك أن تشكرنا!