أصدرت الكاتبة السورية ”ريمة راعي“ حديثا، روايتها الرابعة ”مئة عام قبل الخاتم“ في قالب خيالي ولمحات وجدانية تلامس تفاصيل الحياة اليومية وترتيب أشيائها.
وعوضا عن أن يكون البطل إنسانا بمواصفات عادية، يتضخم في الحكاية حتى يصير ماردا بقامة مهيبة وصدر عريض وذراعين معقودين.
والفرصة الوحيدة المتاحة أمام بطل الرواية للاطلاع على أحوال الدنيا تتمثل في تحقيقه لأمنيات بشري محظوظ مسح على قمقمه، لكنها بطبيعة الحال لا تكفي كي يعرف كيف يعيش بقية البشر الفانين.
تقول الكاتبة بلسان المارد في مطلع الرواية ”شبيك لبيك عبدك بين يديك! عقدت ذراعي فوق صدري العريض، ونفخت عضلات ساعدي مستمتعا بممارسة هوايتي الأزلية: التباهي، وتريثت بضع لحظات رافعا رأسي إلى أعلى في انتظار المتعة القادمة: الشهقات، والصيحات المذعورة، والكلمات المرتعشة: يا إلهي؛ ما هذا! مارد!“.
ويضيف المارد ساردا تفاصيل تقديمه لنفسه ”نظرت بطرف عيني أتفقد المكان حولي، عاقدا ذراعي فوق صدري، لكنني لم أر أي بشري يرتجف أمامي، أو يتعثر بينما يحاول الفرار. وسرعان ما بدأت استشف أن خللا مريبا قد حدث في ترتيب الأحداث!“.
ولكي تصبح للمارد حكاية، يضيع قمقمه وتبدأ رحلة البحث عنه، لكنه عوضا عن العثور عليه يعثر على رغيف الخبز؛ السر الذي يجعل البشر جميعا متشابهين، ويتشاجرون في الطوابير، ولا يبتسمون إلا نادرا.
يقول المارد ”مرت أيام وأشهر ثم سنوات، وأنا أسير على قدمي أبحث عن قمقمي، لكنني لم أعثر عليه. قدماي تجرحتا، وقامتي المهيبة احدودبت، وعيناي اللامعتان باتتا ذابلتين كعيني قط نعسان. ولم يعد الناس يهربون حين أقترب منهم كي أسألهم عن قمقمي المفقود، بل باتوا يستمعون لي بإشفاق وحنو لم أستطع تفسير السبب الحقيقي الكامن وراءهما“.
ويضيف ”وفي أحد الصباحات استوقفت رجلا ذا شعر أبيض وفم فيه أسنان قليلة العدد، وسألته عن قمقمي، وبينما هو يحدق في وجهي بعينين ضيقتين، مد يده إلى حقيبة كان يحملها في يده، وأخرج منها شيئا مدورا، أمسك كفي ووضعه فيه، وقال لي: هذا رغيف خبز، ابحث عنه، أما بحثك عن قمقم ضائع، فسيقودك إلى مستشفى المجاذيب“.
وبالتهامه الرغيف، يصبح المارد بدوره مشابها لملايين البشر؛ يجوع، ويختبر الخيبة والخذلان والانتظار، ثم يكتشف الماء المالح الذي يعرف فيما بعد أن اسمه ”دموع“ ويسبب وجعا يعتصر القلب.
يغوص المارد في تفاصيل حياة البشر اليومية، ليستأجر بيتا، ويشتري معطفا، ويصير لاحقا ضيقا عليه.
وتمزج الكاتبة في روايتها بسلاسة بين الخيال والواقع لتضيع الحدود الفاصلة بينهما، وينصب التركيز في العمل على الهم الوجداني وصراع البقاء في مجتمع استهلاكي تحولت المادة فيه إلى معيار تقييم كل شيء.
وتلامس الرواية بترميز متقن معاناة الطبقات الكادحة وانكماش أحلامهم، ليصبح أقصى تطلعاتهم الحصول على قوت يومهم؛ كفافهم الذي أنساهم تفاصيل وجدانية هي ما تجعل منا بشرا.
وأمام تحديات لم يختبرها من قبل، يبدأ المارد بتعلم تفاصيل البقاء، ليحتال على الحياة كي تسمح له بالعيش فيها، إلا أن مئة عام وعام تمر دون أن يغمض عينيه؛ لأن المارد لا يغفو إلا في قمقم.
"إرم نيوز"