ينطوى الليلة العام 2017 الذي بدا وكأنه شُق من القرن التاسع عشر، بما تخلل وُجهته العامة، من جموح استعماري، له كل أدران ذلك القرن وامتداداتها في الثُلث الأول من القرن المنصرم. كان ذلك العام، مشحوناً بكل البلاءات والتصدعات ووقائع الارتداد عن قيم السلام والتحضر والديموقراطية والإخاء الإنساني، وسُمعت فيه استعادة خطاب الحقب الإمبريالية بكل وقاحتها وانفعالاتها. وبحكم طبائع الزمن فإن العام الجديد، سيحمل معه حُكماً، كل ما آلت اليه أحوال الشعوب في العام المنصرم!
في بلدان الديموقراطيات نفسها، بدأت سنة 2017 بجرعة ثقيلة وجديدة من نزعة التمييز العنصري التي أوقعت تغييراً سلبياً في قانون الهجرة في الولايات المتحدة، وانتعشت النزعات العرقية في أوروبا، وطفا على السطح، الخطاب الاستعلائي الذي يتجاوز القانون الدولي ومحددات السياسة في العلاقات الأممية. وبسبب تفشي النعرات، استعادت بعض أجزاء الشعوب طرح سؤال تقرير المصير، واتسعت دوائر التوتر والحروب وتفاقمت الأزمات وعادت من جديد لعبة الصواريخ التي مرت عابرة في العام 1962 في كوبا أثناء الحرب الباردة، لنصبح بصدد صواريخ كورية شمالية، وصواريخ إيرانية، وصواريخ حوثية ــ إيرانية في اليمن وفي الحروب الساخنة، مع إغفال الصورايخ وآلة الحرب الإسرائيلية الغاشمة. وتواصلت في السنوات الأخيرة، فاجعة القصف الجوي الذي يطال الناس بالجملة ويقتل أطفالاً، في أكثر من بلد وأكثر من حرب. وجرت وقائع الحرق والذبح، في سوريا والعراق وميانمار، وتعملقت جرثومة الإرهاب الذي يزهق الأرواح ويحصد الضحايا بدون تمييز!
كأنما العام 2017 يمثل الذروة لدورة تاريخية ينقلب فيها القديم على الجديد، وتُستعاد الحقب الغابرة. بل إن عصر العولمة، الذي بشرت به الديموقراطيات الراسخة، بات عصراً لشريعة الغاب، فاختلت القواعد التي قام عليها صرح العلاقات الدولية ومبادئها الناظمة للسياسات الاقتصادية والاجتماعية. ولعل أبرز هذه الاختلالات جاءت مع توقيع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على أربعين مرسوماً تدحض ما تبقى من مباديء التعاون الدولي القائم على الاحترام المتبادل، وتضرب قواعد التجارة الدولية والاحتباس الحراري وأنظمة الدفاع القاريّة. بل إن المنجز الحضاري الذي تمثله تقنيات التواصل وبرامجِه على شبكة العنكبوت، استحالت الى عبء على أهدافها، وأصبحت ميادين للكذب وللفرضيات المعرفية المزورة والتهاجي بين المواطنين، فاضطر مارك زوكيربيرغ، مؤسس برنامج فيسبوك للتواصل الاجتماعي الى القول وهو يودع العام 2017 إن الأدوات والشبكات التي وُجدت من أجل التقريب بين الناس، أصبحت تعمل ضد تقريبهم وضد الديموقراطية.
أما في بلادنا فلسطين، فإن العام المنصرم، لم يحظ حتى بمكانة العام المشقوق من القرن التاسع عشر، ولم تكن للنظام السياسي الفلسطيني، محاسن الوالي العثماني في القرن السابع عشر على ما كان عليه الوالي من استبداد وفساد. فقد استشرى النكوص عن الأخذ بالحد الأدنى من ناصية الرُشد والتحسس الإضطراري لمصالح الناس وقضاياها اليومية وقضيتها الوطنية، وأصبح الانحراف وإدارة الظهر للناس قانوناً. ففي العام 2017 تواصل احتقار الأوساط الفلسطينية النافذة، لمبدأ وحدة الطيف السياسي وضرورتها، بل إن كل شيء أصبح منوطاً برجل واحد، سيىء الطَوِيّة ومشوّه العاطفة، لم يستحِ من المجاهرة بأنه "يُعاقب" مجاميع من السكان ومناطق وأخياراً من الوطنيين. وفي هذا الخضم، تطاول على حقوقنا عابرون ومأزومون، حتى جاء رئيس أميركي، بدا سلوكه في العلاقات الداخلية الأمريكية وفي العلاقات الدولية، طافراً وخارج أي محك عقلي أو منطقي، فأعلن من جانبه، ومن وراء البحار والمحيطات، قراره جعل القدس عاصمة لإسرائيل!
بهذه الكوارث الدولية والإقليمية والوطنية، ندخل العام 2018 حائرين محزونين، فلا نعلم كيف نعثر على حكماء يرتقون الى مستوى الجدات العجائز اللاتي كُن يواجهن خطر القصف، فيُطلقن نداءت التجمع في الملاجيء المحصنة التي تستوعب الجميع، وفيها يدور الحديث عن كيفية النجاة وعن آفاق العمل الجماعي بعد زوال الخطر أو بعد انطواء مرحلة وبدء مرحلة جديدة!