‏لماذا لا تنجح إسرائيل في فرض قيادة على الفلسطينيين؟
نشر بتاريخ: 2025/12/06 (آخر تحديث: 2025/12/06 الساعة: 20:00)

منذ الأيام الأولى لحرب الإبادة على غزة، كان واضحاً أن إنتاج الفوضى وهندستها هدفٌ رئيسي للآلة الإسرائيلية، فالفوضى بالنسبة لإسرائيل ليست نتيجة جانبية، بل أداة سياسية وأمنية تُستخدم لإعادة تشكيل البيئة الفلسطينية وتفكيك بنيتها المجتمعية. وفي قلب هذه الهندسة برزت محاولة تصنيع واجهات فلسطينية "جاهزة" يُقدَّم أصحابها كبدائل قيادية أو أصوات معتدلة تتحدث بلسان الاحتلال.

‏لكن هذه الوجوه مهما جرى تلميعها تتساقط، لأن إسرائيل لا تستطيع إعادة تعريف الفلسطيني بما يناسب خيالها الأمني. فالشعب لا يُصنع في مختبرات الاحتلال، والهوية لا تُعاد صياغتها من الخارج، والواقع أقوى من كل عمليات الهندسة السياسية.

‏لهذا ليس غريباً أن تعمل إسرائيل، منذ سنوات، على إنتاج نموذج الفلسطيني الذي يمكن "التعامل معه"، شخصية تُسوّق كبديل قيادي قادر على تأمين الهدوء وخدمة رؤية الاحتلال لليوم التالي. هذه الشخصيات ليست نتاج حاجة فلسطينية، بل مشروع إسرائيلي هدفه تجاوز التمثيل الحقيقي للشعب وتجزئة المجتمع.

‏مقتل ياسر أبو شباب كان علامة على زعزعة هذا المشروع، وهو أحد أبرز وجوه التعاون مع الاحتلال في رفح، صُوّر في الخطاب الإسرائيلي كمرشح محتمل لإدارة الجنوب، أو كشخص يستطيع ملء فراغ سياسي ما بعد الحرب. لكن لحظة إعلان مقتله كشفت هشاشة هذا البناء، فما اعتُبر "شريكاً" لم يكن يمتلك شرعية ولا قاعدة محلية حقيقية، ولا حماية في بيئة تعرف جيداً معنى الاصطفاف مع الاحتلال.

‏منذ انتشار خبر مقتله، انفجرت موجة من الروايات المتناقضة: عائلية، قبلية، جنائية، داخلية، وكل جهة تحاول صياغة الحدث بما يخدم مصالحها. ورغم تعدد السرديات، يجمعها هدف واحد: إبعاد المسؤولية عن الاحتلال، ونفي قدرة المقاومة على تنفيذ العملية خلف خطوط السيطرة الإسرائيلية.

‏فالرواية التي تخدم إسرائيل أكثر من غيرها بسيطة: الرجل قُتل في "خلاف داخلي"، لا وجود لعملية منظمة، ولا اختراق لغزة المحاصرة، ولا فشل في "المنطقة العازلة".

‏لكن تجاهل دور المقاومة أو التقليل منه لا يُغيّر حقيقة أن كثيرين في غزة لم يتفاجأوا بمقتله. فقد كان مطلوباً لجهات مختلفة: عائلات تضررت من ممارسات مجموعته، عناصر رأوا فيه تهديداً محلياً، وحتى من داخل قبيلته مَن عبّر عن الخزي من دوره سنوات طويلة. وكل هذا يعكس حقيقة واضحة:

‏لا توجد قوة قادرة على حماية من يختار العمل تحت عباءة الاحتلال.

‏لسنوات، حاولت إسرائيل إيجاد شخصيات محلية توحي بالقدرة والهيمنة، وتبدو مناسبة للحديث بلغتها السياسية والأمنية. وقد اندرج أبو شباب ضمن هذا السياق: مسلّح، معادٍ لحماس، خارج إطار السلطة، يُقدَّم كمن يستطيع “ضبط الأمن”. لكن خلف هذا التوصيف كانت الحقيقة أكثر عرياً: نفوذه كان انعكاساً مباشراً لوجود الاحتلال في مناطق محددة، وكل ما هو خارجها كان أرضاً لا يطالها، ولا يعرفها، ولا يملك فيها أي شرعية.

‏إن مقتل أبو شباب لا ينهي ظاهرة التعاون، لكنه يكشف محدودية مشروع الاحتلال في فرض قيادة من فوق. القيادة الفلسطينية لا تُفرض بالعسكر، ولا تُنتَج في غرف الأمن، ولا تُزرع داخل مجتمع حيّ يمتلك تجربته ووعيه وإلى حد كبير من مناعته. مهما بدا “البديل” قوياً في الظاهر، يظل الحلقة الأضعف في بيئة تاريخها الاجتماعي والسياسي أعمق من أن يُختَزل بقرار إسرائيلي.

‏وغزة، بتاريخها وذاكرتها الجماعية، ليست ساحة يمكن فيها إسقاط زعيم جاهز وانتظار تصفيق الناس. إسرائيل، رغم كل أدواتها، تكرر الخطأ نفسه: محاولة صناعة قيادة، بدل الاعتراف بشعب يقاتل من أجل الحرية وتقرير المصير.