متى يكفّ هذا العالم عن ترك الفلسطيني وحيدًا تحت المطر؟
نشر بتاريخ: 2025/12/13 (آخر تحديث: 2025/12/13 الساعة: 15:46)

حين يهطل المطر في بلادٍ عادية، تفتح السماء أبواب الخير، وتغتسل الأرصفة، وتطمئن القلوب.

أما في فلسطين الجريحة، فالمطر لا ينزل دائمًا ماءً… بل ينزل سؤالًا ثقيلًا على القلوب قبل الخيام:

متى يكفّ هذا العالم عن ترك الفلسطيني وحيدًا تحت المطر؟

المطر في الذاكرة الفلسطينية كان نشيد حياة، ارتبط بالزرع والخبز وبركة الأرض. لكنه اليوم، في زمن النزوح والخيام، يعزف لحنًا مختلفًا؛ لحنًا موجعًا على قيثارة الوجع الفلسطيني، تهتز له القلوب قبل أن تتمزق الأقمشة.

فلسفة المطر: حين ينقلب الخير امتحانًا

المطر ليس نقمة، لكنه في واقعٍ مكسور يتحوّل إلى امتحان قاسٍ.

هو المطر ذاته الذي انتظرناه أعوامًا، يتحول فوق رؤوس النازحين إلى عبءٍ ثقيل، لا لأن السماء قاسية، بل لأن الأرض خُذلت، والإنسان تُرك وحيدًا بعد أن جُرِّد من بيته وأمانه.

في الخيمة، لا يُقاس المطر بكمّيته، بل بقدرته على التسلّل إلى الداخل، إلى العظم، إلى الروح.

قطراته تُحوّل الأرض إلى وحلٍ يبتلع الخطوات، والليل إلى انتظارٍ طويل، ثقيل، بلا نهاية.

النازحون… يجذفون بأيديهم العارية

في المنخفض الجوي، لا يقف النازح الفلسطيني متفرجًا.

يجذف بأيديه العارية، يحفر مجاري للماء حول خيمته، يرفع أطراف القماش، يحاول إنقاذ بطانية مبتلّة، أو فراشٍ غارق، أو صورةٍ حملها من بيتٍ لم يعد له أثر.

رجال بظهورٍ مثقلة، ونساء بأصابع متشققة من قسوة البرد، وأطفال حفاة في الطين، يرتجفون وهم يحاولون تقليد دفءٍ كان يومًا طبيعيًا قبل الحرب.

الدفء الذي صار ذكرى، والبطانية التي صارت حلمًا.

صفير الرياح… والرعد الذي لا يهدأ

الريح تصفر صفيرًا مهيبًا، كأنها تعلن حصارًا جديدًا.

الرعد يهزّ السماء، لا كصوتٍ مخيف فحسب، بل كتذكيرٍ دائم بأن الخيمة لا جدران لها، ولا أبواب تردّ الارتجاف.

وميض البرق يضيء عيونًا أرهقها السهر والبرد، عيونًا ترتعش بين ضوءٍ خاطف وذكريات بيتٍ كان دافئًا قبل أن تقتحمه الحرب.

في تلك اللحظات، لا يميّز الطفل بين الرعد والقصف، ولا بين البرق والنار.

الخوف واحد، والارتجاف واحد.

الخيمة… وطن مؤقت لا يحمي من الشتاء

الخيمة لا تحمي من المطر، بل تكشف هشاشة الحياة.

يرتجف الجسد، لكن الأكثر ارتجافًا هو الإحساس بالعجز.

كيف تُقنع طفلك أن المطر رحمة، وهو يُغرق وسادته؟

كيف تشرح له أن هذا الصوت في السماء ليس صاروخًا؟

النازح لا يخاف المطر وحده، بل يخاف ما يرافقه:

ليل طويل، وبرد قاسٍ، وانقطاع كهرباء، وعجز عن إشعال نار صغيرة لا تطفئها الرياح.

همسات المطر… مرثية الصبر الفلسطيني

ومع ذلك، يواصل الفلسطيني الإصغاء لهمسات المطر.

ليست همسات فرح، بل مرثية صبر.

المطر هنا لا يبكي، بل يشهد.

يشهد على شعبٍ قُصِف، ثم نُزِع من بيته، ثم تُرك وحيدًا في مواجهة الشتاء، ويُطالَب بالصبر كأنه خيار، لا قدرًا مفروضًا.

في كل قطرة تسقط على خيمة، يسقط سؤال أخلاقي على ضمير العالم:

كم خيمة يجب أن تُغرق؟

وكم جسدًا يجب أن يرتجف؟

قبل أن تصبح المأساة واضحة بلا إنكار؟

الخاتمة: بين رحمة السماء وصمت البشر

المطر سيبقى مطرًا… رحمة من السماء.

لكن العار كل العار أن يتحول الخير إلى وجع، لأن البشر فشلوا في حماية البشر.

فالسماء تؤدي دورها، أمّا الأرض، وأصحاب القرار، والعالم الصامت، فما زالوا يتخلّفون عن دورهم.

وفي غزة، وتحت صفير الرياح وصخب الرعد، يقف الفلسطيني شامخًا رغم الخيمة، ثابتًا رغم البرد، حافيًا لكنه عنيد.

يعرف أن المطر سيمضي، لكن السؤال الذي يهطل مع كل قطرة لن يمضي:

متى يكفّ هذا العالم عن ترك الفلسطيني وحيدًا تحت المطر؟.