إلغاء «قيصر»... تغيير الأداة لا تغيير منظومة الإخضاع
نشر بتاريخ: 2025/12/24 (آخر تحديث: 2025/12/24 الساعة: 16:06)

لم يكن قرار الإدارة الأميركية إلغاء قانون "قيصر" تعبيرًا عن مراجعة أخلاقية أو انعطافة سياسية في مقاربة واشنطن للملف السوري، بل جاء كخطوة محسوبة في سياق إعادة ترتيب أدوات الإخضاع لا تفكيكها. فالقانون أُلغي، لكن المنطق الذي حكمه لم يُمسّ، والضغط لم يُرفع، بل أُعيد إنتاجه بصيغة أكثر مرونة وأطول نفسًا، وبكلفة سياسية أقل على من يفرضه.

في السياسة الأميركية، لا يعني رفع أداة التخلي عن الغاية، ولا يشكّل تخفيف الشكل تراجعًا عن الجوهر. وما جرى مع "قيصر" لا يخرج عن هذا السياق: انتقال من العقوبات الصريحة إلى منظومة تحكم أكثر تعقيدًا، تستخدم الاقتصاد والتمويل والانفتاح المشروط بدل الحصار المباشر، وتُبقي سوريا داخل دائرة السيطرة لا خارجها.

بين تفاؤل شعبي مفهوم، بعد سنوات من العزلة والانهيار، وبين قراءة سياسية واقعية تفرضها خرائط المصالح الدولية، تقف الحقيقة في منطقة رمادية: لا انفراجًا حقيقيًا يُبشّر بالتعافي، ولا استمرارًا حرفيًا للمرحلة السابقة. ما حدث هو تغيير في الأداة، لا في منظومة الإخضاع ذاتها.

من العقوبة إلى المراقبة

منذ إقراره عام 2019، مثّل "قيصر" سيفًا اقتصاديًا مصلتًا على سوريا، استُخدم لخنق النظام وعزله ومنع أي مسار جدي لإعادة الإعمار أو التطبيع الاقتصادي. غير أن إلغاءه اليوم لا يعني إزالة القيود، بل نقل البلاد من خانة "الدولة المُعاقَبة" إلى خانة "الدولة المُراقَبة".

في التجربة الدولية، كثيرًا ما تكون الرقابة أخطر من العقوبة. فالعقوبات الفجّة تولّد مقاومة، بينما الرقابة تُدخل الدول في شبكات تحكم ناعمة، حيث يصبح التمويل، والاستثمار، والمساعدات، وأدوات "الدعم الدولي"، وسائل ضبط بعيدة المدى. الولايات المتحدة لم تتخلّ عن الضغط، بل أعادت هندسته.

وهم "الانتصار" وحدود الواقع

ذهب بعض الخطاب إلى تصوير إلغاء "قيصر" بوصفه انتصارًا للنظام السوري أو استعادة لشرعية مفقودة. غير أن هذا التوصيف يتجاهل الواقع البنيوي للدولة السورية بعد أكثر من عقد من الحرب: اقتصاد شبه منهار، بنية تحتية مدمرة، نظام مالي معزول فعليًا، ومجتمع أنهكته الانقسامات والخسائر.

ما يُطرح اليوم ليس تحريرًا للنظام بقدر ما هو إعادة إدماج مشروط ضمن ترتيبات إقليمية ودولية لا تُدار من دمشق، بل من عواصم أخرى. الهامش الذي يُمنح ليس تعبيرًا عن قوة، بل عن قابلية للتشكيل والضبط.

سوريا في قلب ترتيبات لا تصنعها

لا يمكن فصل قرار إلغاء "قيصر" عن المشهد الإقليمي الأوسع: مسارات التطبيع العربي، إعادة التموضع التركي، محاولات تثبيت النفوذ الأميركي في شرق المتوسط، وإدارة التوازنات مع روسيا وإيران. في هذا السياق، تُستعاد سوريا بوصفها ساحة توازنات لا طرفًا فاعلًا فيها.

الملف السوري لا يُقارب بوصفه قضية سيادة أو إعادة بناء دولة، بل كعقدة يجب إدارتها بما يمنع انفجارها، ويضمن استمرار التحكم فيها. ومن هنا، فإن رفع القانون لا يفتح باب الاستقلال، بل قد يكرّس سيادة منقوصة تُدار اقتصاديًا بدل إدارتها عبر العقوبات.

التفاؤل الشعبي… مشروع لكنه هش

لا يمكن تجاهل الأثر النفسي لقرار الإلغاء على الشارع السوري. فبعد سنوات من القهر، يصبح أي كسر للعزلة نافذة أمل. غير أن التفاؤل، ما لم يُسند بتحولات سياسية حقيقية، يبقى هشًا، سريع التبدد.

فرفع العقوبات لا يعيد بناء دولة، ولا يرمم عقدًا اجتماعيًا ممزقًا، ولا يعالج جذور الأزمة التي قادت إلى الحرب. بل قد يتحول، إن أُسيء فهمه، إلى وهم جديد يُراكم الخيبة بدل تجاوزها.

الاقتصاد بدل السياسة؟

الرهان الأميركي الظاهر يقوم على إدارة الأزمة عبر الاقتصاد لا حلّها سياسيًا. إدخال سوريا في مسارات اقتصادية مشروطة، مع الإبقاء على أدوات ضغط غير معلنة، يسمح بضبط السلوك من دون تحمّل كلفة المواجهة المباشرة. لكن هذا المسار يحمل مخاطر جسيمة.

فاقتصاد بلا سياسة، وانفتاح بلا سيادة، وتنمية بلا عدالة، ليست وصفة للاستقرار، بل لتأجيل الانفجار. والأزمات المؤجلة غالبًا ما تعود أكثر حدّة.

الرهان الوحيد الممكن

الرهان الواقعي لا يكمن في قرارات الكونغرس ولا في مزاج الإدارات الأميركية، بل في قدرة السوريين أنفسهم، داخل البلاد وخارجها، على تحويل هذا التحول من خطوة إدارية إلى مسار وطني شامل.

من دون إصلاح سياسي حقيقي، ومن دون مصالحة وطنية، ومن دون إعادة بناء علاقة الدولة بالمجتمع، سيبقى إلغاء "قيصر" تعديلًا في أدوات التحكم لا تغييرًا في مصير البلاد.

القانون أُلغي… والمنظومة باقية

إلغاء قانون "قيصر" لا يعني أن سوريا خرجت من دائرة الاستهداف، بل يعني أن أدوات الإخضاع تغيّرت. فالمنظومة التي حكمت العقوبات ما زالت قائمة، والسيف لم يُغمد، بل أُعيد صقله ليعمل بصمت أكبر.

الولايات المتحدة لا تنسحب من الملفات التي تعتبرها حيوية، بل تعيد إدارتها بأدوات أقل ضجيجًا وأكثر فاعلية. وسوريا، حتى اللحظة، ما تزال تُعامل كملف يُدار لا كدولة تستعيد قرارها.

ما لم يُنتزع المسار الوطني من قبضة الخارج، وما لم تُفكك بنية الاستبداد داخليًا، سيظل "قيصر" حاضرًا، ولو بلا اسم، وستبقى السيادة مؤجلة، والاستقرار مؤقتًا، والأمل معلقًا على حسابات لا تُصنع في دمشق، بل تُدار فوقها.