نُقل عن وزير الخارجية الأمريكية الأسبق هنري كيسنجر، “أن ليس لإسرائيل سياسة خارجية، بل سياسة داخلية فقط” وتفسير هذا القول، أن الدولة العبرية لا تعبأ بعلاقاتها الخارجية بالقدر المطلوب لأية دولة، ولا تهتم كثيراً بالقوانين الدولية وشرعية المجتمع الدولي، بل أن كل اهتمامها يعود بالدرجة الأولى للسياسة الداخلية، لتحقيق استقرار الدولة واستمرار سيطرتها وهيمنتها وتوسعها، وبالنسبة لأية دولة عادية، فإن سياستها الخارجية تهدف إلى بلورة موقع لها في إطار المنظومة الدولية التي تصبح أكثر تأثيراً في خارطة العلاقات الدولية من خلال هذه السياسة التي ترتكز على توسيع دائرة تحالفاتها والتقليل من الخصوم والأعداء، بالنسبة للدولة العبرية، فإن هذا الدور يرتكز بشكل أساسي على قدرتها على أن تنفصل عن الشرعية الدولية وإدارة الظهر للقوانين والقرارات الصادرة والمنظمة لأعمال الأمم المتحدة والاكتفاء بحصر دورها على قدراتها الحربية والتسليحية والصناعات التقنية المتطورة ورشوة بعض الدول الضعيفة كي تقف إلى جانبها في المحافل الدولية إذا لزم الأمر.
السلوك الإسرائيلي إثر قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب باعتبار القدس المحتلة عاصمة للدولة العبرية، يؤكد من جديد، صحة مقولة كيسنجر هذه، فقد أدارت الظهر تماماً للمجتمع الدولي وقرارات المنظمة الدولية، وفضلت أن تصبح أكثر عزلة وحصاراً بالمعنى السياسي، على أن تكف عن ممارسة سياسة داخلية تهدف إلى التوسع والتهويد والضم في القدس المحتلة، كما في كل أنحاء الضفة الغربية المحتلة.
ولعل في تصويت حزب الليكود، الحزب الحاكم القائد للائتلاف الحكومي على ضم الضفة الغربية، منذ أيام قليلة، ما يشير إلى أن هذه السياسة الداخلية، بالقدر الذي تمارس في مواجهة مع القضية الوطنية الفلسطينية بهدف تصفيتها، إلا أنها وبالتوازي، تعمل على إثارة منافسة حادة ومحمومة بين مختلف أشكال الطيف الحزبي وفي إطار الحكومة نفسها، قرار الليكود المشار إليه، يأتي حسب اعتقادنا في نطاق هذا السباق المحموم والتصارع للسطو على أصوات الناخب الإسرائيلي في ظل احتمالات متزايدة بانعقاد انتخابات مبكرة للكنيست إثر التحقيقات القضائية مع رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، وهنا يصح القول أن قرار الليكود أيضاً، يأتي في إطار سياسة داخلية لهذا الحزب، في سياق الصراع بين المرشحين من كبار قادته لخلافة نتنياهو في قيادة الحزب ومن ثم في رئاسة الحكومة القادمة في حال عقد انتخابات مبكرة والفوز بها.
ويُذكر في هذا السياق، أن نفتالي بينت، وزير التربية والتعليم ورئيس البيت اليهودي سبق أن تقدم قبل ست سنوات داعياً إلى ضم المنطقة “ج” في الضفة الغربية المحتلة إلى السيادة الإسرائيلية، إلا أن حزب الليكود، بقراره المشار إليه، قد سرق هذه الدعوة وتبناها مضيفاً إليها في صياغة غامضة نسبياً ضم كل الضفة الغربية المحتلة، حزب البيت اليهودي، بات من أكثر الأحزاب تنافساً على أصوات الناخبين مع حزب الليكود بناءً على استطلاعات الرأي التي نشرتها وسائل الإعلام الإسرائيلية.
وفقاً للنظام الداخلي لحزب الليكود، فإن إقرار هذا المشروع، يفرض على رئيس الحكومة، كما على كل أعضاء الحزب في الكنيست، المضي قدماً للدفع به للتصويت واتخاذ القرار النهائي في البرلمان الإسرائيلي، ويشار بهذا السياق، أن نتنياهو تعمد الغياب عن مؤتمر الليكود هذا، في وقت يشار فيه إلى أنه مع ذلك يتبنى هذا القرار، مع أن بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية قد أشارت إلى أنه لن يتعامل معه بجدية وسيستخدمه فقط في المواجهة مع “بينيت” لأنه يعلم تماماً سلبيات التقدم بهذا القرار إلى الكنيست، إضافة إلى أن يده تمتد لاتخاذ القرارات المتسارعة في عملية ضم وإقامة وبناء المزيد من الاستيطان في الضفة الغربية المحتلة من دون الحاجة لمثل هذا القرار.
مع ذلك تشير بعض الأوساط السياسية في إسرائيل، إلى أن النظام الداخلي لليكود، بهذا الصدد، لم يكن ليشكل فارقاً إذا أصر رئيس الحزب على مخالفته، ففي عام 2002، صوتت اللجنة المركزية للحزب ضد إقامة دولة فلسطينية بأي شكل من الأشكال، إلا أن رئيس الوزراء آنذاك، أرئيل شارون، قال إنه “سيتخذ القرار المناسب بهذا الشأن”، وفي عام 2009 عبر نتنياهو عن تأييد مشروط لإقامة دولة فلسطينية، متجاهلاً قرار اللجنة المركزية للحزب.
وكانت أطراف عديدة، وقيادات إسرائيلية مختلفة، سياسية وأمنية، قد عارضت وما تزال ضم الضفة الغربية المحتلة إلى الدولة العبرية، باعتبار أن لذلك مخاطر على نقاء الدولة اليهودية من خلال الميزان الديمغرافي، حيث أغلبية السكان المواطنين من الفلسطينيين العرب، وإضافة إلى هذا العامل، فهناك من رأى أن هذا الضم ليس ضرورياً طالما العملية الاستيطانية تجري على قدم وساق من دون أية معارضة أو مواجهة حقيقية، إلا أن بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية، أضافت سبباً آخر لمعارضتها هذا القرار، عندما نقلت عن “يائير لابيد”، رئيس حزب هناك مستقل، أن هذا القرار يعتبر أفضل هدية لمنظمة “بي.دي.اس” الحركة العالمية لمقاطعة إسرائيل، حيث قدم الدولة العبرية بلا مكياج، وعلى حقيقتها كدولة عنصرية محتلة، إذ سيكون من الصعب على أصدقائها الدفاع عنها!