مرت قبل أيام ذكرى 20 عاماً على نشوب الانتفاضة الثانية، أو كما كان يسميها الفلسطينيون «انتفاضة الأقصى». ما جرى هو أحد المنعطفات المهمة في التاريخ الفلسطيني المعاصر، بالتحديد في العقود الثلاثة الماضية. بعد مرور 7 سنوات على توقيع اتفاق أوسلو، الذي اعتُبر في نظر كثيرين في إسرائيل وفي العالم قراراً نهائياً تاريخياً للفلسطينيين بالتوجه إلى المسار السياسي وتنمية الدولة المقبلة، تراجعوا إلى الوراء، إلى خنادق القتال. كان الصراع الذي نشب واحداً من الصراعات الأكثر ضراوة في تاريخ النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني، وجسّد استمرار التخبط التاريخي وغير المحسوم للفلسطينيين بين تشكيلة واسعة وكثيرة التناقضات من الأهداف الوطنية.
نشوب الصراع في أيلول 2000 كان بداية فترة كثيرة الاضطرابات في المنظومة الفلسطينية، تغيرت في نهايتها صورتها الذاتية وموازين القوى داخلها، وشبكة العلاقات بينها وبين القوى الخارجية وعلى رأسها إسرائيل. بعد مرور 20 عاماً يمكننا تلخيص التغيرات التي أحدثتها الانتفاضة الثانية، وتحليل السيناريوهات التي يمكن أن تتطور في المنظومة الفلسطينية، وما ستكون تداعياتها على إسرائيل.
تحليل التغييرات
الانتفاضة الثانية حدث تاريخي له تاريخ بداية متفق عليه (في 28 أيلول زار أرئيل شارون الحرم القدسي، وفي اليوم التالي نشبت مواجهات مسلحة واسعة النطاق في جميع أرجاء «المناطق»)، لكن ليس لها تاريخ انتهاء محدد. يوجد بين الفلسطينيين مَن يدّعي أن الانتفاضة الثانية وصلت إلى نهايتها مع موت ياسر عرفات في تشرين الثاني 2004 وصعود أبو مازن، الذي تبنى رؤيا إستراتيجية مختلفة تماماً، وهناك مَن يقول: إن الانتخابات العامة في السلطة الفلسطينية في سنة 2006 التي فازت فيها «حماس»، وسيطرة الحركة بالقوة على قطاع غزة في حزيران 2007 هما اللذان أنهيا الانتفاضة الثانية، وهناك مَن يزعم أن المواجهة لم تتوقف أبداً، بل تحولت من هجمات بإطلاق النار وهجمات انتحارية إلى معارك عسكرية وجولات تصعيد في قطاع غزة، وهجمات أفراد في الضفة الغربية.
التطورات في الانتفاضة الثانية أثبتت - مثل حالات كثيرة أُخرى في التاريخ الفلسطيني - أن دينامية التصعيد أقوى بكثير من الخطط، وهي توصل الفلسطينيين تقريباً على الدوام إلى واقع مختلف وأسوأ من الذي خططوا له. «التفجير» الأول الذي بادر إليه عرفات قدماً بصورة استباقية ومقصودة في نهاية أيلول 2000، على ما يبدو من أجل العودة إلى المفاوضات من موقع قوة، ترافق مع مواجهات شعبية واسعة النطاق، لكنها تحولت بسرعة إلى صراع مسلح، قادته التنظيمات المسلحة وعلى رأسها «فتح» - الحزب الحاكم في السلطة الفلسطينية الذي كان في طليعة الداعمين للعملية السياسية. بالإضافة إلى ذلك، الانتفاضة التي بدأت كمواجهة وطنية شاملة ضد إسرائيل تحولت إلى صراع فلسطيني داخلي شرس، غيّر بصورة دراماتيكية صورة المنظومة الفلسطينية.
مقارنة المنظومة الفلسطينية في سنة 2000 بما هي عليه اليوم تكشف التغييرات العميقة التي طرأت عليها. في هذا الإطار يمكن الإشارة إلى عدد من الفوارق الجوهرية بين الماضي والحاضر:
أ - من ساحة إلى ساحات: بدأت الانتفاضة الثانية بينما كان يسيطر على المنظومة الفلسطينية عنصر قوة واحد (السلطة الفلسطينية) وزعيم واحد (عرفات). بعد مرور عشرين عاماً، تسيطر على المنظومة الفلسطينية حكومتان مستقلتان - في الضفة الغربية وفي قطاع غزة - لم تنجحا (أو لمزيد من الدقة - ليستا معنيتين) بالدفع قدماً بالمصالحة بينهما. في نظر الكثيرين من الفلسطينيين الانقسام الذي يزداد ترسخاً مع مرور الزمن هو أحد الثمار المُرة الواضحة للانتفاضة الثانية. ما بدأ كصراع ضد إسرائيل أدى إلى زعزعة مركز الحكم الفلسطيني، وعزز قوة «حماس» التي اعتبرت نفسها دائماً بديلاً عن قيادة منظمة التحرير في المنظومة الفلسطينية، بعد سنوات طويلة كان فيها المعسكر الإسلامي على هامش المنظومة الفلسطينية، وعمل من موقع المعارضة، أو كحركة سرية ملاحَقة، قلب الواقع رأساً على عقب في قطاع غزة.
ب - الابتعاد عن تحقيق الأهداف الوطنية: في صيف 2000، وقبل تعثر المفاوضات، ساد شعور وسط كثيرين في المنظومة الفلسطينية (وأيضاً الإسرائيلية والدولية) بأن الطرفين على وشك التوصل إلى تسوية تاريخية. وبحسب هذه النظرة، يمكن أن يؤدي الأمر إلى تحقيق أهداف وطنية فلسطينية إستراتيجية، وعلى رأسها قيام دولة مستقلة. بعد 20 عاماً يبرز لدى الجمهور الفلسطيني شعور بالابتعاد المستمر عن إمكان تحقيق الأهداف الجماعية، وعلى رأسها الدولة المستقلة التي تستند إلى رؤيا دولتين لشعبين. هذا في الأساس بسبب الجمود المستمر في المفاوضات السياسية، بالإضافة إلى التغيير المستمر في الواقع الجغرافي والديموغرافي في الضفة الغربية. تلاشي الإيمان بالعملية السياسية كأداة مركزية لتحقيق الأهداف الوطنية لا يعني بالضرورة زيادة التأييد لفكرة «المقاومة» التي تمثلها قيادة «حماس». نموذج الحكم الذي تمثله الحركة في قطاع غزة ليس مغرياً بالنسبة إلى أغلبية الفلسطينيين: رافقت الـ13 عاماً الأخيرة ثلاث معارك فتاكة ومدمرة، وضائقة مدنية مستمرة للجمهور الغزاوي. في حالة اليأس بين البديل من العملية السياسية وبين المقاومة، تطورت فكرة متواضعة أكثر واقعية هي تحسين نسيج الحياة كما يعبّر عنه شعار «بدنا نعيش». يجسد هذا الأمر، من بين أمور أُخرى، التعب الجماعي للفلسطينيين من سنوات من الشعارات، والنضال والأيديولوجيا النضالية، التي لم تؤد إلى إنجاز مهم. هذا الشعور بالإضافة إلى ذكرى الصدمة التي لا تزال محفورة في الوعي الجماعي الفلسطيني في ضوء نتائج الانتفاضة الثانية، لجما حتى اليوم (ويستمران في لجم) تحقُّق سيناريو انتفاضة ثالثة.
ج - زعزعة الثقة الجماعية بين إسرائيل والفلسطينيين: المراحل الأولى والقاسية للانتفاضة الثانية، خصوصاً العمليات في قلب التجمعات السكنية الإسرائيلية، التي ألحقت أذى كبيراً في الوعي العام الإسرائيلي بشأن كل ما يمس الصلة بالفلسطينيين وفرص التوصل إلى تسوية سياسية معهم. هذا التوجه ترسخ بعد سيطرة «حماس» على قطاع غزة، ونشوب معارك عسكرية قاسية في العقد ونصف العقد الأخيرين، والتي انطوت على تهديد قلب إسرائيل (في الأساس بوساطة إطلاق الصواريخ)، وكل ذلك بعد انسحاب إسرائيل من المنطقة في سنة 2005. يبرز التغيير في الرأي العام الإسرائيلي بصورة واضحة في المعارك الانتخابية في العقدين الأخيرين التي فاز بها فقط زعماء من كتلة اليمين - الوسط. عدم الثقة واضح أيضاً في الجانب الفلسطيني، خصوصاً الذين يعيشون في الضفة الغربية، والذين في تقديرهم أن إسرائيل لا تنوي الدفع قدماً بالعملية السياسية، بل تسعى لتغيير مستمر للواقع في المنطقة من أجل أن تتمكن من السيطرة عليها في نهاية الأمر (كل ذلك من دون إعلان رسمي للضم، الذي لم يعد مطروحاً على ما يبدو على جدول الأعمال في أعقاب تطبيع العلاقات بين إسرائيل والإمارات، والذي يبدو في نظر الفلسطينيين تهديداً لا يزال موجوداً).
عن موقع «معهد هرتسليا للسياسات والإستراتيجيا»