في أمريكا لم ينجح انتخاب الأسود أوباما ولا انتخاب الأبيض ترمب في توحيد الأمة الأمريكية المنقسمة لتاريخ طويل، فقد أظهرت هذه الانتخابات ما كان مخفياً لزمن فوق انقسامات سياسية ومجتمعية حادة تعود لزمن ما قبل الاستقلال ونهاية الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، وكرست الانقسامات انقساماً مجتمعياً حاداً في الداخل الأمريكي وصراع الليبراليين والمحافظين، بسبب الحزبية المفرطة.
فالدولة العميقة والتخوف من سيطرة الحزبين الأمريكيين مؤشر مهم على أن أمريكا أمة منقسمة، وكما قال لي دروتمان، مؤلف كتاب «كسر الحلقة المفرغة لنظام الحزبين»: «انقسام الولايات المتحدة إلى حزبين كبيرين أمر يُخشى منه بوصفه شراً سياسياً عظيماً»، فالديمقراطية والانتخابات الأمريكية رغم وصول رئيس أسود مثل باراك حسين أوباما، فإنها لم تنجح في ردم الفجوة بين الليبراليين والمحافظين والبيض والسود، فتكررت اليوم الاعتداءات على السود بمقتل الكثير منهم على يد رجال الشرطة بدم بارد لأن الأمريكي الأسود (أوباما) ببساطة لم يعمل كموحِّد لجميع الأعراق والثقافات بسبب أن ما أوصله للحكم هو حزب لا يتبنى سياسة إذابة الفوارق بشكل حقيقي، إنما في حالة صراع مع حزب آخر هو مَن أوصل ملياردير شعبوي للحكم.
البحث عن الدولة أو المدينة الفاضلة في أمريكا يعد نوعاً من إهدار الوقت، فاليوتوبيا حلم مفقود في قارة كريستوفر كولومبوس. فأمريكا مثقلة بتاريخ إبادة ثمانية عشر مليوناً من الهنود الحمر (السكان الأصليين)، وثورة الزنوج والعبيد، وتاريخ 400 سنة من حروب المستضعفين، رغم أن هؤلاء السود هم شركاء حرب الاستقلال الأمريكي.
الانقسام الأمريكي انعكس في التشكيك في الانتخابات الأمريكية، التشكيك غير المسبوق بهذا الحجم، لدرجة تبادل الاتهام بـ«التزوير» والحديث عن سرقة الانتخابات وتصويت قاصرين وحتى موتى، ناهيك بأصوات «مزوّرة» جُلبت بالبريد بعد انتهاء الحق في التصويت، واتهامات بمحاولة اقتحام مراكز الفرز وإتلاف الأصوات، وفق اتهامات متبادلة بين المعسكرين الجمهوري والديمقراطي، أعادت للأذهان عقلية الانتخابات لدى بعض بلداننا، وأظهرت حقيقة وحجم الانقسام في الداخل الأمريكي، فعلى الرغم من المشاركة غير المسبوقة لأكثر من 120 عاماً لم تستطع أن تخفي الانقسام الشديد بين أنصار رمز الفيل ورمز الحمار، وظهور تصريحات تتناقض مع المسار الديمقراطي المعهود والتلويح بعدم تسليم السلطة بسلاسة.
الانتخاب في أمريكا هو انتخاب حزبي، لكنّ الانقسام الحاد هو في شخصنة الانتخابات بين شخصَي المرشحين.
في أمريكا أدلى 100 مليون ناخب تقريباً بأصواتهم بالفعل قبل يوم التصويت، رغم أن الآلية التي يعمل بموجبها النظام الانتخابي الأمريكي سبب احتمال أن يفوز أحد المرشحين بأغلبية الأصوات على المستوى الوطني (الأمريكي) ولكنه قد يخسر الانتخابات مع ذلك، لأن الأمريكيين يصوّتون على مستوى الولايات لا على المستوى الوطني.
التخوف غير مبرر إذ أن الموضوع الانتخابي هو برنامج حزبي بحت، والحزبان يتقاسمان أمريكا فكرياً وسياسياً ولم يستطع حزب آخر ثالث أن يخفف من حالة الانقسام بين هذين الحزبين، ولم تستطع أمريكا من ثم تجنب الحزبية المفرطة، ما أسهم في توسع الفجوة الحزبية.
سباق الانتخابات الأمريكية يقابله قلق دائم ومستدام في الشرق الأوسط، خصوصاً في ظل علاقة الديمقراطيين بجماعات الإسلام السياسي، ذاكرة مشروع أوباما لتوطين هذه الجماعات في منطقة الشرق الأوسط عقب مشروع الفوضى الخلاقة الذي يُتهم به الديمقراطيون.
السياسات الأمريكية ومعالجة انقسامات الداخل كانت دائمة مثار انتقاد كبير، وهذا ما قاله قديماً السيناتور فولبرايت: «لقد أصبحت أمريكا (المجتمع المريض) ومن عوارض هذا المرض محاولتها معالجة حرب فيتنام وحرب ديترويت بوسائل بالية».
فخلال حكم ترمب، اعتمدت سياساته على المتناقضات واستبدال المفاهيم، من تعاطٍ مع حلفاء إلى تعامل مع منافسين، ومن سياسة تبادل المصالح إلى سياسة الدفع المسبق، ولا مكان للمجانية، بل الابتزاز هو سيد الموقف.
التعددية والتنوع لم يمنحا أمريكا الحصانة من الخشية الكبرى، وهي انقسام الأمة الأمريكية إلى أمم ممزقة منقسمة، وهذا واضح المعالم في محاولات تقاسم الجغرافيا السياسية في البلاد بين حزبين هرمين لم ينجح أيٌّ منهما في إعادة حالة الاتحاد للأمة كما تمناها الآباء المؤسسون. أمريكا اليوم بين خطرين أحلاهما مُرّ: انقسام الجمهورية أو الأمة.
أياً كان الفائز، ترمب أم بايدن، فالأزمة تتجاوز الشخصين في جذورها.