ما الذي تحمله أفكار «ماريانا مازوكاتو» من دلائل للاقتصاد الفلسطيني؟ (1-4)
نشر بتاريخ: 2020/11/09 (آخر تحديث: 2025/12/16 الساعة: 10:27)

منذ العام 2009 والمعهد يعقد محاضرة يوسف صايغ التنموية، إحياء لذكرى البروفيسور يوسف عبد الله صايغ (1916-2004) ودوره الرائد في دراسات التنمية والتطوير للاقتصاد الفلسطيني، ويركز المعهد في كل عام على موضوع مهم ومرتبط بالوضع الاقتصادي الفلسطيني، وتأتي محاضرة هذا العام للتركيز على أهمية الابتكار للاقتصاد الفلسطيني، وكيف يمكن لمؤسسات الدولة أن تلعب دور مستثمر مجازف يروج للابتكار، وتخفض من نفقاتها الجارية لصالح نفقاتها التطويرية والتنموية خاصة مع دخول الاقتصاد الفلسطيني مرحلة جديدة من الصدمات، والتي نشأت عن انتشار جائحة «كوفيد-19»، وخطط الضم الإسرائيلية، واستمرار الحصار الاقتصادي والمالي، ومصادرة الاحتلال للمصادر الطبيعية الفلسطينية. لذا، من المفيد التمهل قليلا وإعادة تقييم بنية الاقتصاد الفلسطيني ومساره على المستوى الكلي.

تقدم المحاضرة هذا العام البروفيسورة ماريانا مازوكاتو Mariana Mazzucato، وهي أستاذ كرسي لاقتصاد الابتكار والقيمة العامة في جامعة كلية لندن (University College London)، كرست حياتها المهنية للتفكر في الطريقة التي تقاس بها قيمة الأشياء في الاقتصاد وكذلك الطريقة التي نرسمها لدور القطاع العام في تكوين الثروات من خلال تنفيذ سياسات موجهة لتحقيق أهداف محددة ومشاريع عالية المخاطر. تأتي توجهاتها العلمية والاقتصادية ضمن الإرث الفكري التقدمي للبروفيسور صايغ، الذي كان له تحليله الخاص حول أهمية دور الدولة الاقتصادي.

لا يختلف اثنان على خضوع الاقتصاد الفلسطيني لسطوة الاحتلال الإسرائيلي، والذي يحكم قيوده على الموارد والحدود الفلسطينية منذ أمد طويل، إلا أن نفوذ القوى الاقتصادية والاجتماعية الأخرى كان بارزا وهو ما فرضته البنية الداخلية للسوق وأعاق الوصول للتنمية العادلة والمستدامة. تلاحظ إحدى هذه القوى الصاعدة في ظهور طبقة رأسمالية فلسطينية جديدة، متمثلة بعدد من المؤسسات الاقتصادية والمالية الكبيرة. وقد مكنت تشوهات الأسواق تحت الاحتلال من زيادة نفوذ أصحاب رؤوس الأموال في عدد من الأسواق المحلية (المالية والعقارية والتجارية)، في ظل ضعف الإطار القانوني الناظم لعمل هذه الأسواق، ولعدم وجود قاعدة صلبة ومستدامة من الموارد العامة ونظام ضريبي تصاعدي يضمن إعادة توزيع الدخل العادل بين الطبقات الاجتماعية فيما يسمى «بالأمولة».

أدى العمل بنظام «السوق الحر» في دولة تنقصها السيادة إلى اللجوء للقطاع المالي باعتباره الحل لكافة المشكلات الاقتصادية. إلا أن الاستمرار في نفس المسار العشوائي لتطور الأسواق دون إيجاد حلول لوقف الممارسات التجارية الاحتكارية والحصرية، سيحيد بالأهداف المرادة من هذه الاستثمارات بخلق حلول للتحديات الاقتصادية التي تواجه فلسطين، لا وبل وقوعها في فخ المساهمة في خلق المزيد من الديون لذوي الدخل المحدود والذين يزدادون فقرا يوما بعد يوم.

وفق نظرية مازوكاتو، يتوجب على صانعي السياسات في جميع أنحاء العالم التركيز على وضع أهداف طويلة المدى لتحقيق النمو الشامل القائم على الابتكار. بالإضافة لانعكاس ذلك إيجابا على الناتج المحلي الإجمالي، وخلق الابتكارات الكاسحة والخلاقة، التي من شأنها تحسين المستويات المعيشية، سيساهم ذلك أيضا في خلق وإعطاء قيمة لكل عضو في المجتمع وليس فقط للقطاعات الرأسمالية أو الشركات. إذا ما نجحنا برسم تصور جديد حول الدور المفترض بالقطاع العام تقلده في المجالات الابتكارية، نكون نجحنا في خلق موارد دخل جديدة للحكومة. وفي حالة استثمار القطاع العام في مشاريع ذات مخاطرة عالية، يصبح له الحق في تملك أسهم في الشركات التي يستثمر بها، وهو ما يمكن ترجمته في كثير من الأحيان على أنه شكل من أشكال تنويع مصادر الدخل ما سيساعده في تقليل اعتماده على الإيرادات الضريبية.

ووفق الحالة الفلسطينية التي شهدت ارتفاعا في عدد الشركات الناشئة، وظهرت مؤسسات ومبادرات ريادية عديدة، بالإضافة لمحاولة السلطة الوطنية الفلسطينية دعم هذه الأنشطة باعتبارها تعمل على خلق فرص عمل، خاصة لفئتي الشباب والنساء. إلا أن أفكار مازوكاتو تدعو للتركيز على أهمية أن يكون هناك دور أكبر للحكومة في تعزيز الابتكار بحيث تكون في طليعة المستثمرين في قطاع البحث والتطوير، ولا تعتمد فقط على مؤسسات القطاع الخاص.

ورغم أهمية الابتكار للاقتصاد الفلسطيني، إلا أنه يجد نفسه مضطرا للاعتماد بشكل كبير على الاقتصاد الإسرائيلي، كونه لا يزال في طور النمو، الأمر الذي يعطي فرصة أكبر للاحتلال وأذرعه للتحكم بمصادره المختلفة. وبرغم أنف هذه المعيقات، يبقى رأس المال البشري هو المورد الأكثر قيمة والذي لا يستطيع الاحتلال الإسرائيلي سلبه بالقوة من الشعب الفلسطيني. لذا تقع على عاتق مؤسسات القطاع العام، وأي شركات مملوكة للدولة، مسؤولية الاستثمار في رأس المال البشري بشكل كامل، وتعزيز الابتكار، والريادة، والمشاريع عالية المخاطر ما تسميه مازوكاتو «مستثمر الملاذ الأول». يجب أن تتخطى أهداف هذه السياسة الاقتصادية كيفية وقف هجرة الكفاءات الفلسطينية إلى إسرائيل ودول أخرى، إلى خلق قيمة ذاتية جديدة في الاقتصاد الفلسطيني مستقلة عن الاقتصاد الإسرائيلي، تقضي على كافة أشكال التشوهات في آليات عمل الأسواق المحلية، وتخلق مصدر دخل جديدا للقطاع العام بما يعود بالنفع على الفلسطينيين كافة.

كثيرة هي الحكومات حول العالم التي قادت سلسلة من الاستثمارات في مشاريع ابتكارية فيها مخاطرة، وخير مثال على ذلك الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، حيث استخدمت هاتان الدولتان الصناعات الأمنية/ العسكرية في الغالب لتبرير هذه الاستثمارات. على سبيل المثال، تذكر مازوكاتو أنه لولا الإنفاق على الصناعات العسكرية الأميركية لما كان الآيفون iPhone موجودا، اليوم، ولا تم اختراع الشاشات التي تعمل باللمس، أو تطبيق سيري، أو نظام تحديد المواقع GPS، وعمليا أي برنامج أو تطبيق من تطبيقات الآيفون التي يستخدمها الملايين من الناس في جميع أنحاء العالم يوميا. لذلك تعتبر مازوكاتو أن القطاع العام يساهم في خلق جزء من الثروة الوطنية ويستثمر بها.

بينما يمارس قطاع الشركات أيضا دورا محوريا في المشهد الابتكاري في الدول المتقدمة، فإن المفتاح للعديد من هذه الاختراعات التي يمكن أن تغير حياة الناس هو بناء شراكة بين القطاعين العام والخاص على أسس سليمة. أفضل وصف للوضع الحالي لمنظومة ريادة الأعمال في فلسطين، اعتماد هذه المنظومة بشكل كبير على تمويل المانحين لمسرّعات الأعمال وحاضنات الأعمال والبرامج الأخرى التي تحتضن أفكارا لمشاريع جديدة. من جهة أخرى، تعاني هذه المنظومة من قلة الاستثمارات المحلية للقطاع الخاص التي توفر التمويل الأولي والموارد اللازمة للشركات الناشئة والمبتكرين لتطوير أعمالهم.

في السياق الفلسطيني، تمكننا أفكار مازوكاتو من طرح عدد من الأسئلة:

- نظرا للقيود العديدة المفروضة على الاقتصاد الفلسطيني وسيطرة الاحتلال على موارده المالية، كيف يمكن للموارد العامة أن تلعب دور المستثمر المجازف الذي يروج للابتكار، وتخفض من نفقاتها الجارية لصالح نفقاتها التطويرية والتنموية؟

- عندما تقوم دول مثل الولايات المتحدة وإسرائيل باستخدام الجيش كمبرر للاستثمار في الابتكار، ما هي الأدوات المتاحة أمام دولة منزوعة السلاح وبلا سيادة مثل فلسطين للاعتماد عليها؟

- على افتراض أن عائد الدولة من الاستثمار في فلسطين كان ممتازا، كيف يمكن أن يستفيد عموم الفلسطينيين من ذلك وليس فقط النخب الاقتصادية التي تتمتع بوضع مالي جيد أصلا؟

هذه بعض الأسئلة التي يمكن لمازوكاتو بخبرتها الطويلة مساعدتنا في الإجابة عنها في السياق الفلسطيني الفريد من نوعه، باتجاه بناء اقتصاد فلسطيني عصري، متقدم ومزدهر بموارده البشرية والعلمية قبل المادية والمالية.

 

** مدير عام معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس).

 

عن الايام