"يديعوت": اغتيال فخري زاده.. عقيدة داغان ومخاطر العملية
نشر بتاريخ: 2020/12/05 (آخر تحديث: 2025/12/16 الساعة: 13:50)

متابعات: ألغى السعوديون، الأسبوع الماضي، بشكل مفاجئ زيارة كان مخططاً لها لمحفل أمني إسرائيلي كبير الى بلادهم. وحسب مصادر سياسية في القدس، من غير المستبعد ان يكون هذا رئيس «الموساد»، يوسي كوهن، المحور المركزي في العلاقات بين الدولتين، ما جعل إلغاء الدعوة حدثاً مهماً جداً.

حصل هذا بعد بضعة أيام من تباهي إسرائيل بزيارة رئيس الوزراء نتنياهو مع ولي العهد السعودي على الأراضي السعودية، وقبل تصفية عالم النووي الايراني، محسن فخري زاده، في 27 تشرين الثاني. وبتقدير تلك المصادر السياسية، جاء الغاء الدعوة ليعبر عن عدم رضى سعودي من السلوك الإسرائيلي. من المشكوك فيه جدا أن يكون السعوديون عرفوا شيئا عن التصفية المخطط لها. من المعقول اكثر الافتراض انهم غضبوا من انعدام سرية نتنياهو ومحيطه. فنشر أمر اللقاء لم يكن بالتشاور معهم، وألزم وزير الخارجية السعودية بالخروج في نفي جارف لمجرد وجوده.

هذه ليست المرة الأولى. في السنوات الأخيرة يحطم نتنياهو بالتدريج سياسة الغموض، التي خدمت إسرائيل سنوات عديدة جدا في علاقاتها الخارجية السرية وفي ادارة شؤونها الامنية الحساسة للغاية. وقد بات هذا رد فعل شرطياً: نصل الى انجاز كل قوته في سريته – ونجعله اداة سياسية داخلية هدفها تعظيم رئيس الوزراء. فالتسريب عن زيارة نتنياهو الى مدينة نيوم في السعودية قد لا يكلف حياة الانسان. ولكن تلميحاته الى انه كان منشغلاً جداً في الايام التي صفي فيها أبو البرنامج النووي الايراني قد يكون لها ثمن، بحياة الانسان ايضاً.

 

جيب وأربع دراجات

من صفى فخري زاده بذل جهداً كبيراً جداً في طمس الآثار. يبدو أنه تعلم جيداً دروس تصفية كبير «حماس»، محمود المبحوح، في دبي، قبل 11 سنة. فلا توجد شهادات مصورة لحملة تصفية العالم الايراني الذي كان في طريقه لزيارة اقاربه في مدينة ابساد. وبقدر ما هو معروف، فان الايرانيين لا يزالون يتحسسون طريقهم في الظلام، ولكن توجد لهم مصلحة في نشر رواية معينة تسمح لهم بتبرير الفشل في نظر جمهورهم. ومن هنا أيضا القصص الرائعة عن التصفية عن بعد وما شابه. وبالتوازي يحررون «معلومات» كي ينتزعوا رد فعل ما يسهل عليهم حل لغز الحدث. فالنشر غير الرسمي لصور أربعة من المغتالين، زعماً، هو محاولة جس نبض اخرى تستهدف استفزاز احد ما بارتكاب خطأ والرد وبالتالي كشف نفسه.

للجهة التي قامت بالاغتيال بالمقابل، توجد مصلحة في نشر رواية تساعد على طمس آثار المصفين، تسمح لهم بالاختفاء وتزيد التخوف الايراني من التغلغل العميق في اجهزة الحراسة لديهم.

الرواية المقبولة اليوم في «نيويورك تايمز» ووسائل اعلام ذات مصداقية اخرى، تتحدث عن انقطاع الكهرباء نصف ساعة في المنطقة التي تمت فيها التصفية، ما منع على ما يبدو تفعيل كاميرات الحراسة المنصوبة في المنطقة. والنقطة التي اختيرت توجد قريبا من ميدان حركة السير، حيث يتعين على سيارات القافلة الثلاث للعالم ابطاء سرعتها. يوجد وصف لجيب نيسان ازرق عمل سيارة مفخخة وانفجر بالتشغيل عن بعد امام سيارة الحراسة التي سارت في نهاية القافلة. وبالتوازي مع الانفجار هوجمت سيارة الحراسة التي سافرت على رأس الطابور بنار من سلاح اوتوماتيكي، بينما قام قناصة برش السيارة الوسطى حيث كان فخري زاده. وانصرف المغتالون من هناك على أربع دراجات وجيب من طراز هونداي سنتفيه.

وعثر على فخري زاده نفسه مستلقيا خارج سيارته بعد أن اصيب بثلاث رصاصات على الاقل. إما ان يكون خرج وحده بعد أن اصيب أو ان المغتالين أرادوا التأكد من قتله. مهما يكن من امر لم ينج أي شاهد عيان ايراني في الحدث.

لا حاجة للمرء أن يكون خبيرا كي يستنتج بان يكون شارك في مثل هذه العملية بضع عشرات الاشخاص الذين يتواجدون في الميدان، حيث يشكل معظمهم بنية تحتية عملياتية على ارض ايران. وخلية التصفية التي تصل الى ايران تستوعب وتستعين بالبنية التحتية التي اعدت لها: شقق للاختباء، معلومات استخبارية في الزمن الحقيقي، تجنيد مساعدين، سبل فرار وما شابه. والانقاذ هو بشكل عام عقب اخيل في عمليات من هذا النوع.

الرد الايراني، اذا ما وعندما سيأتي، سيكون موجها على ما يبدو لممثليات إسرائيلية في الخارج واهداف إسرائيلية اخرى في العالم. والتقدير هو انهم سيهاجمون في الاماكن التي توجد فيها شبكات لـ «حزب الله» تستوعب رجال العمليات من الاستخبارات الايرانية أو ان يتم استخدام اجهزة العمليات الخارجية لـ «حزب الله». ويدور الحديث بشكل عام عن دول لا تتعاون محافلها الامنية مع إسرائيل مثل دول أميركا الجنوبية، افريقيا والشرق الاقصى، وكذا تركيا والامارات، التي اصبحت مقصدا سياسيا للإسرائيليين.

وهنا تنتقل الكرة الى جهاز المخابرات «الشاباك»، المسؤول عن حماية الممثليات والوفود في الخارج وتبدأ المرحلة الدفاعية في الحملة: تعزيز منظومة الحراسة، مشاركة الشرطة المحلية وتحديث انظمة الدفاع في السفارات ومحيطها. ويمكن لرفع حالة التأهب ان يستمر لفترات زمنية محدودة. يوجد للايرانيين صبر. وهم سينتظرون لحظات الضعف.

كما أن من شأن الايرانيين أن يردوا باطلاق النار من سورية او من غرب العراق نحو اهداف في إسرائيل. فلديهم صواريخ جوالة هي في واقع الامر طائرات نفاثة بدون طيار تحمل مواد متفجرة بوزن 30 كيلوغراما. في ايار 2018 بعد أن دمر سلاح الجو منظومات الدفاع الجوي السورية وبنى تحتية ايرانية في سورية، اطلق الايرانيون نحو 30 صاروخا – اربعة منها فقط وصلت الاراضي الإسرائيلية واعترضتها القبة الحديدية.

 

عقيدة داغان

حتى لو كانت إسرائيل لا تأخذ المسؤولية عن اي تصفية في اي مكان في العالم فان لتصفية علماء النووي الايرانيين المنسوبة لإسرائيل يمكن ان نسميها «عقيدة داغان» على اسم رئيس «الموساد» الراحل، مئير داغان، الذي يرى رئيس «الموساد» الحالي، يوسي كوهن، نفسه تلميذا له ومواصلا دربه. في ندوة لذكرى داغان عقدت في 2017 وصف كوهن تلك العقيدة فقال: «آمن داغان بانه يمكن العمل على الاستراتيجيات عبر سياق متواصل من الاعمال التكتيكية. فقد آمن بقوة العمليات المركزة لخلق كتلة تصبح مصممة للواقع. كانت حالات اعترف فيها داغان بنفسه بأنه لا يعرف كيف يحدد بالضبط خطا واحدا يربط سلسلة العمليات الصغيرة. ولكنه آمن بأنه طالما كان لديك اتجاه عمل واضح، فان سلسلة العمليات الموضعية ستحرك الواقع في الاتجاه الصحيح».

مبدأ آخر لداغان، يبدو أن كوهن تبناه ايضا، هو: «بهذه العقيدة توجد قيمة كبرى اذا ما تمت الاعمال الهجومية في ارض العدو».

في نظرة الى الوراء، فان سلسلة العمليات المركزة التي تحدث عنها داغان تتضمن، حسب المنشورات، ضرب المصانع التي تعمل في العالم على انتاج العناصر للبرنامج النووي الايراني، وضرب المنظومة المالية التي تخدمه، وضرب مصانع الصواريخ ومنشآت تخصيب اليورانيوم على الارض الايرانية وغيرها. والى جانب هذا ضرب مديري المشروع النووي والعلماء. لا يمكن لاي عملية كهذه ان توقف وحدها السباق نحو النووي، ولكن بالمجمل تؤدي الى تأخير وضرب القدرة الايرانية على الوصول الى النووي العسكري.

بالمناسبة كان لداغان كرئيس لـ «الموساد» خلاف جوهري مع رئيس الوزراء نتنياهو حول طريقة وقف النووي الايراني. في بداية العقد السابق، عندما تحدثت القيادة السياسية عن ضربة عسكرية في ايران، ادعى داغان بان مثل هذه الضربة ستجبي ثمنا لا يطاق من إسرائيل. وقال اعطوني المليارات، وانا سأكسب لكم بين سنتين واربع سنوات تأخير المشروع. وسيكون هذا اقل كلفة واقل خطراً بكثير.

كان محقاً. فليس لدى الايرانيين بعد قدرة عسكرية نووية، رغم التوقعات القاتمة التي تحدثت عن قنبلة ايرانية منذ 2010.

وتحليل عمليات البنى التحتية النووية في ايران قد يشير الى صعوبة في شلها لزمن طويل من خلال عملية عسكرية. يوجد اليوم في ايران 11 مركزا يرتبط بالمشروع النووي. اثنان منها في قم وفي نتانز– تحت أرضيين. والجهة الوحيدة القادرة على أن تنفذ، من اليوم الى الغد، تدميرا متناسقا لمعظم مراكز النووي هي قيادة اوروبا في الجيش الأميركي. في بداية العقد، كانت منشآت النووي هشة اكثر، ولهذا كان يمكن ليس فقط للأميركيين، بل لجهات اخرى ان تضربها بنجاعة. ولكن في عامي 2012 – 2013، في ضوء الجدال العلني في إسرائيل عن خيار الهجوم في ايران، دفن الايرانيون جزءا من المنشآت في باطن الارض، احاطوها ببطاريات صواريخ أرض – جو وجعلوها مواقع محصنة. اما الادارة الاساس المتبقية في يد إسرائيل فهي العمليات السرية.

منذ تسلم داغان منصبه في 2002، عندما تلقى من رئيس الوزراء، ارئيل شارون، المسؤولية عن الموضوع النووي الايراني، استغرقه ثلاثة – أربع سنوات كي يبني بنية تحتية تخدم عقيدته. وكانت هذه استثمارات كبرى، تتواصل حتى يومنا هذا. فليس فقط تفعيل طواقم تصفية، منسوبة لـ «الموساد»، بل ايضا بناء قدرات استخبارية وبنى تحتية في دول الهدف.

في 2007 بدأت تنشر انباء عن تفجيرات خفية في منشآت النووي في ايران. في كانون الثاني من تلك السنة علم عن عالم كان يعمل في منشأة لتحويل اليورانيوم لاصفهان وقتل بالسم. ولكن الموجة الكبرى كانت بين 2010 و 2012. وحسب المنشورات، في تلك الفترة صفي أربعة علماء نووي آخرين. كما نشر في حينه عن فيروس «ستاكسنت» الذي شل منظومة حواسيب اجهزة الطرد المركزي وعن ادخال «حصان طروادة» لعدة منشآت نووية.

يبدو أنه بالتوازي مع بناء بنية تحتية لتنفيذ عمليات هجومية توثق ايضا التعاون في المجال مع وكالات استخبارية صديقة. سير جون سويرس، رئيس وكالة الاستخبارات البريطانية M16 تباهى في مقابلة صحافية بان البريطانيين أيضا ضربوا البرامج النووية الإيرانية.

انهى داغان مهام منصبه في 2011، وتواصلت سلسلة الاحداث في ايران بسنة أخرى على الأقل. وعندها في 2013 توقفت فجأة موجة الاغتيالات للعلماء الإيرانيين. والخلفية على ما يبدو كانت بدء الاتصالات بين الولايات المتحدة وايران والتي انتهت بالتوقيع على الاتفاق النووي في 2015. في 2018 خرجت إدارة ترامب من الاتفاق النووي، وفي 2019 عادت ايران لتهدد بتحطيم القيود التي فرضت عليها في الاتفاق. وفي نهاية تلك السنة استأنفت السباق نحو القنبلة. فمن غير المفاجئ، إذاً، انه في منتصف 2020 عادت التقارير عن عمليات قامت بها جهات خفية في ايران. في حزيران وقع انفجار في منشأة للصواريخ في حجر، وفي تموز انفجرت منشأة لانتاج أجهزة طرد مركزي في نتانز. وفي آب صفي في طهران رقم الرجل الثاني في «القاعدة»، وفي تشرين الثاني صفي فخري زاده. وهكذا انهار العامود الفقري الثاني – بعد قاسم سليماني – والذي اعتمدت عليهه سياسة الردع والامن القومي الإيراني.

 

ليس «قنبلة موقوتة»

­برأي خبراء في الغرب فان تأثير تصفية فخري زاده على استمرار المشروع النووي رمزي فقط. ولكن اذا عادت ايران الى كامل برنامج السلاح – أي بناء الرأس المتفجر النووي – فانه سيكون ملموسا جدا غياب الرجل بسبب قدراته وخبراته في المجال. يبدو أن أحدا ما توصل الى الاستنتاج بان الإيرانيين يستغلون تجميد الاتفاق النووي كي يستأنفوا السباق نحو القنبلة، وينبغي تذكيرهم قبل أن يدخل بايدن الى البيت الأبيض ويبدأ بالاتصالات على استئناف الاتفاق النووي.

عقيدة داغان يمكنها أن تنجح فقط اذا ابقيت سرا. والاغتيال هو مسألة إشكالية في دولة ديمقراطية. في إسرائيل يتحدثون بشكل عام عن احباط مركز فقط في سياق «القنبلة الموقوتة». من المعقول الافتراض بان علماء النووي الإيرانيين لا يدخلون ضمن هذا التعريف القانوني. وتصفية بؤر المعرفة تأتي بشكل عام للردع، بضرب المعنويات، لزرع الحرج في محافل الأمن ولإزالة عقول إبداعية عن الطريق. ولكن العالم يعرف كيف يقدر القوة ويحترم الاعمال الجريئة والذكية. ولا تزال عملية عنتيبة رمزاً تجارياً دولياً. كما ان النجاح العملياتي يبرز كون إسرائيل ذخرا لحلفائها، ولا سيما الولايات المتحدة.

وبالمقابل تثور معضلات مثل «اذا كنت اصفي عالما فلماذا لا اصفي وزير دفاع يعطيه الأوامر او الزعيم الروحي؟ اين الحدود؟ اذا صفيت خصما في دولة صديقة وامسك بك فانك تعرض للخطر العلاقات الدبلوماسية. وبخلاف ضرب المنشآت أو البنى التحتية، فان تصفية شخص ما تدعو الى الثأر. وعندما تكون هذه شخصية رسمية فهذه إهانة للنظام الذي لم ينجح في حمايتها. يحتمل أيضا ان يكون داغان آمن بأن تلك العمليات الموضعية المتواصلة، التي نسبت لإسرائيل، ستضعف النظام امام جمهوره. وهذا هو السبب الذي يجعل النظام الإيراني يتوعد بعملية ثأر.

كان يمكن لانعدام العنوان الواضح أن يسمح للإيرانيين بالامتناع عن الرد. فليس لهم من يدينونه. والى هنا يدخل التبجح حتى وان كان بالتلميح من جانب رئيس الوزراء. وهذا يكفي للإيرانيين.

 

عن «يديعوت»