خلافا للنجوم الآخرين في الثورة الإسلامية مثل قاسم سليماني، كان محسن فخري زاده حتى يوم الجمعة الماضي مجهولا بالكامل تقريبا للايراني العادي.
يظهر ملفه الاستخباري أن السبب في ذلك لم يكن افتقاره للاهمية،بل العكس تماما، ففخري زاده الذي قاد في العقود الاخيرة أهم مشروع رائد منذ وصول الخميني الى السلطة، كان من أبرز الشخصيات في المراتب العليا في الجمهورية الاسلامية، وأدرك الايرانيون أنه كان مستهدفا، لذلك احاطوه بحماية أمنية مشددة، و حرصوا على أن يعرف اقل عدد من الاشخاص مكانه وماذا يفعل.
كشف المحلل العسكري رونين بيرغمان في تحقيق مطول في صحيفة "يديعوت أحرنوت" الاسرائيلية عن وضع الموساد خطة لاغتيال فخري زاده، وانه كان على رأس قائمة العلماء الايرانيين الذين تعقبهم وكتب: "من المنطقي أن لا تعلق ملصقات رأس مشروعك الأكثر أهمية وسرية بين أشجار النخيل في شوارع طهران، بخاصة اذا كان مطلوبا للاستجواب من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية".
في العام 2008 كثر الحديث عن استعدادت اسرائيل لمهاجمة المنشآت النووية الايرانية، وأثناء زيارة الرئيس جورج بوش اسرائيل، وخلال حفل العشاء انتقل بوش ورئيس الوزراء الاسرائيلي آنذاك ايهود اولمرت وستيف هادلي وايهود باراك الى غرفة جانبية، وبين رائحة الويسكي والسيجار في الهواء طلب باراك الاذن من بوش لشراء أنظمة من الاسلحة المتطورة، بما في ذلك الطائرات المتطورة التي تقلع عموديا والقنابل التي تخترق المخابئ. لم يكن على المرء أن يكون عبقريا ليفهم سبب هذا الطلب. الرئيس بوش اوضح لمحدثيه موقفه الرافض تدمير البرنامج النووي الايراني، لكن اولمرت قال لبوش: اريد أن اريك شيئا مهما، فغادر براك وهادلي الغرفة...هنا طلب اولمرت من بوش: "سيدي الرئيس ارجو منك عدم التحدث عن هذا مع أي شخص ولا حتى مع رئيس وكالة الاستخبارات المركزية".
سحب أولمرت جهاز تسجيل صغير وضغط على زرالتشغيل، جاء صوت رجل يتحدث الفارسية، هنا قال اولمرت: "هذا محسن فخري زاده، رئيس برنامج "عماد" المشروع النووي العسكري السري الايراني الذي تنفي ايران وجوده بالمطلق".
كيف وصل هذا التسجيل الى اولمرت؟ وفقا لبيتر بيكر- كاتب سيرة الرئيس بوش، فان اولمرت أخبر بوش ان الموساد جند عميلا مقربا من رئيس المشروع النووي الايراني سجل ما قاله فخري زاده.
ولأن بوش لا يتحدث الفارسية، قدم أولمرت النص الانكليزي. كان زاده يتحدث بصراحة وبالتفصيل عن مشروع حياته "تطوير الاسلحة النووية الايرانية"، وكان يشكو من عدم توفير الميزانيات الكافية لهذا البرنامج، فمن ناحية اشتكى من "أنهم يريدون خمس رؤوس وبسرعة، ومن ناحية اخرى لا يدعونه يعمل"، أخيرا ينتقد فخري زاده بعض زملائه في وزارة الدفاع والحرس الثوري بقسوة.
قرأ بوش الترجمة والتزم الصمت محاولا استيعاب الامر، فالاستماع لرئيس البرنامج يتحدث عن خمسة رؤوس حربية نووية شيء مختلف تماما ويغير قواعد اللعبة.
ادرك اولمرت أن بوش لن يبيع اسرائيل الاسلحة التي طلبتها، لذلك قرر استغلال الفرصة لطلب آخر هو "تعاون استخباري كامل، من دون اسرار، اسرائيل ستقدم كل ما لديها من معلومات بشأن الملف النووي، من الان فصاعدا نعمل معا في كل شيء".... وافق بوش.
كان التسجيل جزءا من ملف ضخم جمعه الموساد بجهد كبير ومجنون ومعقد لسنوات، عن شخص واحد: فخري زاده، ضم كما لا يحصى من التفاصيل والوثائق والصور والتسجيلات، بعضها من مصادراسرائيلية واخرى من اجهزة استخبارات اجنبية ومنها مصادرمرئية.
بعد عامين تم تنفيذ عملية سايبر الكترونية مشتركة اسرائيلية-اميركية اطلق عليها "الالعاب الاولمبية"، الحقت أضرارا جسيمة بالمشروع النووي الايراني، وأخرت تقدمه بشكل كبير. كان الفيروس متطورا، وتمكن من السيطرة على أجهزة الطرد المركزي، ومن غير المستبعد أن تكون العملية وليدة تلك الليلة التي استمع خلالها بوش لتسجيل فخري زاده.
يشرح بيرغمان أنه "في ضوء عدم وجود أي تأكيد رسمي لوقوف اسرائيل وراء اغتيال فخري زاده، من المهم ان نفهم كيف يتم أنشاء ملف استخباري لأي شخص سيكون الهدف لاغتيال منظم". في جهاز الموساد يتم أنشاء ملف (تي بي أس) أختصار لمصطلح العلاج السلبي أي "الاغتيال"، عادة ما يتم أنشاء الملف من قبل موظفين محترفين وعملاء ميدانيين وضباط استخبارات وخبراء في الشأن.
المنطق واضح هنا المحترفون هم الذين يعرفون من "يساوي وزنه ذهبا" ومن يشكل خطرا جسيما، ومن سيؤدي استبعاده من اللعبة الى تخفيف التهديدات للامن القومي بشكل كبير، يقوم المحترفون بجمع ملف للمعلومات حتى يتوصلوا الى استنتاج مفاده أن الامر يتجاوز الحد، فيرفعوا الأمر الى رئيس الجهاز، وفي حال قبوله التوصية يأخذها الى رئيس الوزراء للموافقة عليها من حيث المبدأ، وبعدها تبدأ الاستعدادات لتنفيذ المهمة.
في تلك اللحظة تأخذ المعلومات طابعا مختلفا اضافة لتوثيق "الافعال السيئة" للهدف، وتبدأ مرحلة جمع دقيق لروتين حياته، وعندما يشعر الجهاز انه قادرعلى تنفيذ المهمة يعود الى رئيس الوزراء و يتم بعدها طرح المهمة للنقاش في "لجنة رؤساء الخدمات" التي تضم رؤوساء الموساد والشاباك وقائد القوات المسلحة، كما يحضر رئيس الاركان بعض الاجتماعات.
و يشير بيرغمان الى ان "من المواد الاستخبارية التي تم جمعها اتضح أن المهندس الواعد محسن فخري زاده من مواليد 1961 متزوج ولديه أبناء، كان استاذا للفيزياء في جامعة الامام الحسين، كانت محاضراته تحظى بشعبية بين الطلاب. رئيس معهد الابحاث النووية التحق بالحرس الثوري عام 1979 وعمل في البداية ضابط علميا".
عام 1993 اومض اسم فخري زاده رادار جهاز الموساد للمرة الاولى، تم توظيف عميل شاب اطلق عليه اسم" كالان" قيل يومها ان له مستقبلا واعدا، ونجح بتمرير المخططات الاولى لجهاز الطرد المركزي من ايران،كانت هذه بدايات نظام التخصيب النووي، حصل فخري زاده على ثروة من المعرفة والمعدات من والد المشروع النووي الباكستاني الدكتور عبد القادر خان، اما العميل "كالان" الذي ارتقى الى مستوى التوقعات، فهو اليوم رئيس جهاز الموساد يوسي كوهين.
بعد ان اصبح الموساد في قلب عين زاده، تبين أن هناك شيئا دقيقا آخر اكثر مركزية واهمية. تم اكتشاف العديد من الوثائق التي قام بتوقيعها بقلم حبر ازرق على جانبي الصفحة، مواد في غاية السرية ولا يتم تحميلها على جهاز كومبيوتر،اضافة لزياراته المتكررة لاحد المواقع التجريبية مع أقرب مساعديه، كما انه طلب من رجاله العثور على موقع لاجراء تجربة نووية تحت الارض.
يظهر ملف فخري زاده انه مدير ممتاز ومثير للاعجاب، تكنوقراط موهوب، التزم الهدف الذي وضعه امامه، دقيق في الرسومات والتفاصيل بقلمه الازرق، لا يتعامل مع المسائل الاخلاقية، فقط كيف سيصنع القنبلة الذرية لايران وكيف يخدع العالم ويخفيها.
عام 2002 اعد الموساد قائمة بأسماء كبار العلماء الايرانيين، معظمهم أعضاء في "مجموعة أسلحة" فخري زاده، وتم وضع اسمه على رأس القائمة، في مرحلة ما اعد الموساد سيناريو لاغتياله بناء على ملفه، وافق اولمرت على الخطوط العريضة للعملية، لكن شعبة الاستخبارات في الجيش عارضت بشدة ايذاء فخري زاده، ليس من باب الشفقة، كما أن مسؤولا رفيعا في الموساد اقنع اولمرت بأن الايرانين على علم بمخطط الاغتيال، فأمر اولمرت داغان بالغاء العملية، لكن اولمرت ادعي ان داغان من الغى العملية.
عام 2008 ظهر أن فخري زاده كان يبني موقعا ضخما لتخصيب اليورانيوم داخل شبكة انفاق في أعماق جبال منطقة بيرديو.
عام 2015 ظهر امكان قتل فخري زاده مرة اخرى، لكن جهاز الموساد حذر من ان مثل هذا الاغتيال سيتسبب بأزمة، لان أدارة الرئيس اوباما كانت تفاوض ايران من دون علم اسرائيل. في اسرائيل يزعمون أنه رغم رياح المصالحة مع واشنطن، استمر فخري زاده في العمل ساعيا وراء القنبلة طوال الوقت، لم يتخل المهندس المخضرم ذو القلم الازرق عن حلمه الكبير " وضع رأس نووي على صاروخ" لكن اغتيالا غامضا قطع هذا الحلم.
النهار العربي