مرايا الإنجليز في الرواية الفلسطينية (1 من 2 )
نشر بتاريخ: 2020/12/06 (آخر تحديث: 2025/12/16 الساعة: 23:01)

أعادتني رواية جمال أبو غيدا «تلاع الريح» إلى لازمة رئيسة في أدبنا كنت درستها في العام ١٩٩٨، وتابعتها في نصوص سلمان ناطور، وهي صورة الإنجليز التي بدت في معظمها سلبية، بسبب الكتابة عن العلاقة معهم في فترة الانتداب، وما جرته سياستهم، في حينه، من كوارث عانينا منها وما زلنا.

وباستثناء فدوى طوقان وجبرا اللذين كتبا عن نماذج إنجليزية عرفاها في بريطانيا، فبدت صورتهم إيجابية أو إنسانية، فإن الصورة ظلت سلبية عموماً.

في أدبيات القرن الحادي والعشرين لم تتلاشَ الكتابة عن الإنجليز، فقد ظلوا يحضرون كلما استرجع الروائيون حقبة الانتداب وما نجم عنها، أو كلما كتبوا عن بيئات زارها الإنجليز لاحقاً كبيئة القدس.

أصدر عزام توفيق أبو السعود في العام ٢٠٠٨ روايته «صبري» وحفلت بالكتابة عن الإنجليز، وفي العام ٢٠١٥ نشر ربعي المدهون روايته «مصائر» ولم تخل من نموذج إنجليزي وإن مهجن، وبعده بعام نشر جميل السلحوت روايته «رولا» التي جرى أكثر أحداثها في القدس وحضرت فيها شخصية (استيفاني)، وفي العام نفسه ٢٠١٦ صدرت رواية عاطف أبو سيف «الحاجة كريستينا» وكان للإنجليز أيضاً فيها حضور.

كتب أبو السعود عن فلسطينيين وإنجليز نشأت بينهم علاقات تجارية وإنسانية وتزاوروا وتحابوا واستقبل الإنجليز فيها الفلسطينيين في بيوتهم وخرجوا معهم في نزهات، بل وبالغوا في كرمهم.

لم يكن الإنجليز هنا جنوداً وعساكر وضباطاً ينتدبون فلسطين ويقمعون أبناءها وينحازون لصالح المستوطنين اليهود ويساعدونهم بتهريب السلاح وغض النظر عن المهاجرين غير الشرعيين - إن كان هناك أصلاً مهاجرون شرعيون.

وكتب ربعي المدهون عن فلسطينية أرمنية من عكا اسمها ايفانا اردكيان أحبت، في زمن الانتداب، طبيباً ضابطاً بريطانياً وتزوجت منه، رغم رفض أهلها ومقاطعتهم لها، وأنجبت منه جولي التي ستتزوج لاحقاً من الفلسطيني وليد دهمان، وهربت ايفانا معه إلى لندن.

لقد عشقت ايفانا جون ولم يعد في نظرها بريطانياً مستعمراً كريهاً، ولا طبيباً ضابطاً، بل الشاب الوحيد الذي أوقعها من أول ابتسامة «هي التي كان شبان ساحة عبود، وحارة الشيخ عبدالله والفاخورة، وزملاؤها في مدرسة «تراسنطة»، ينثرون ابتساماتهم الصباحية تحت قدميها.... كانت مستعدة لأن تفعل كل شيء لكي ترتبط بجون إلى الأبد، حتى لو اندلعت حرب كبرى بين بريطانيا العظمى وساحة عبود، وتورط فيها أرمن عكا كلهم» - أي انجليزي ساحر جون هذا؟ وأي ايفانا فلسطينية هذه الايفانا أيضاً؟.  

وكتب جميل السلحوت عن فتاة إنجليزية زارت القدس وأقامت علاقة مع مقدسي من العشائر المحيطة بالمدينة ولم تنته العلاقة بالنجاح، فثمة عالمان مختلفان ولا ندري كيف ستكون نظرتها لو التقت ببرجوازي فلسطيني منفتح من أبناء المدينة؟

كانت (استيفاني) شابة غربية منفتحة وشبقة، راقت لها القدس وراق لها طعامها الشعبي وفحولة العربي، ولم ترق لها عادات العشيرة وتقاليدها وخضوع الشاب لسطوة أهله.

أما عاطف أبو سيف فكتب عن علاقات صداقة نجمت بين جورج الصحافي الإنجليزي وعوني الصحافي اليافاوي

عانت فضة ابنة عوني في طفولتها من مرض أعيا علاجه الأطباء في يافا، فأبدى جورج استعداده لمعالجتها في بريطانيا، ولم يمانع الأب في سفر ابنته، وحين حدثت النكبة وتفرق الفلسطينيون وتشتتوا وفقدت فضة عائلتها تبناها جورج رسمياً وظلت تقيم في كنفه إلى أن توفي فجأة، وهنا اختلفت علاقة أخواته معها، فقررن إعادتها من حيث أتت غير آبهات بمصيرها.

«جورج الذي يعيش في لندن ويمضي معظم وقته في يافا، بل إنه يعيش هنا، تخرج من جامعة أكسفورد متخصصاً في الدراسات الشرقية ثم قرر أن يعيش في مكان ما من المنطقة العربية» أراد أن يكمل تاريخ عائلته، فجده أحب فتاة عربية مسيحية من الناصرة، ولم يكتب لعلاقتهما النجاح، وأخوه الأكبر ادموند، الذي اختفت كتيبته ١٦٢ خلال معركة غزة الثانية التي وقعت في نيسان ١٩١٧، دفن في مقبرة الجيش الإنجليزي في غزة، فأراد جورج بعد خمسة وعشرين عاماً زيارة قبر أخيه وإكمال قصة جده، فقد يحب فتاة عربية ويتزوجها، جورج هذا طيب القلب. لقد عرض على صديقه مساعدته في معالجة فضة وهكذا سافرت إلى لندن معه.

النماذج الإنجليزية التي كتب عنها الروائيون لم تظهر في أية رواية فلسطينية، كتبت قبل العام ١٩٤٨، على قلة الروايات التي صدرت في حينه، أما بعد ١٩٤٨ فلم تظهر، فيما قرأته، نماذج على شاكلتها حتى في قصص جبرا القصيرة «عرق وقصص أخرى» ١٩٥٦. وظل الأمر كذلك حتى قرأنا سيرتي جبرا «البئر الأولى» (١٩٨٦) وفدوى «رحلة جبلية... رحلة صعبة» (١٩٨٥).

والسؤال هو: لماذا لم تظهر مثل هذه النماذج قبل العام ١٩٤٨، حتى في رواية اسحق موسى الحسيني الذي درس في لندن وكتب عن العمالقة رامزاً إلى الإنجليز، روايته «مذكرات دجاجة» (١٩٤٣)؟ ألأن الفلسطينيين في حينه لم يروا إلا سياسة الانتداب التي أفقدتهم وطنهم؟

والسؤال هو:

- ما الصورة التي ظهرت للإنجليز في رواية أبو غيدا؟

 

الايام