"حكاية طارت".. مثل أشياء كثيرة تطير!
نشر بتاريخ: 2020/12/08 (آخر تحديث: 2025/12/16 الساعة: 18:10)

لم أكنْ أعرف اسميهما، عصفوران بشريان، خُلقا ليكونا معاً، كنت أراهما في كل مكان بالجامعة: الكافتيريات والشوارع وخلف الأشجار وعلى الكراسي الخشبية وقاعات الكليات، ومرة رأيتهما في عيادة الجامعة ولم استطع معرفة من هو المريض، كلاهما كان يتوجع، في أيديهما دائماً كتب الدراسة وقهوة، وحين ينفجران في ضحكة كانت الكتب والقهوة تقع على أحذيتهما.

كنت وحيداً بلا فصيل سياسي أو أصدقاء في الثلاثة أشهر التي درستُ فيها في جامعة بيرزيت أوائل الثمانينيات، احاولُ بلا جدوى أن أعثرَ على حبيبة تقع قهوتها وقهوتي، كتبها وكتبي على أقدامنا من الضحك.

ما حدث بعد ذلك كان غريباً، تركتُ محاضراتي لأُراقبهما وجلست قبالتهما في كل مكان، لم أكن عاشقاً لها، ولم أتخيّل نفسي مكانه، كنتُ عاشقاً لقصة هيامهما ببعضهما البعض، وسكراناً بسعادة وجودهما معاً، كلما وقعتْ قهوتهما كانت قهوتي تقع، وحينما كانا ينسيان في زحام عشقهما كتبهما الدراسية على مقاعد حدائق الجامعة لاحظتُ أنني كنت أنسى كتبي أيضاً مكاني، وحين كانا يضحكان على موقف لا أعرفه كنت اضحك، وحين رأيتهما يقبّلان بعضهما تحت شجرة، كنت قادراً تماماً على الإحساس بطعم سعادة الشجرة، وفي العيادة حين رأيتهما يتوجعان من مغص، أحسستُ بمغص وكنت متأكداً أن الشجرة أيضا كانت تشعر بمغص تلك اللحظات.

ثلاثة أشهر امضيتها أترنّحُ سكراناً بسعادتهما خلفهما في شوارع الجامعة وداخل قاعات الكليات، غادرتُ بعدها بيرزيت إلى اربد. وهناك ومع اكتظاظ ايامي بحياة جديدة لم استطع نسيانَ قصة العصفورين البشريين.

بعد ست سنوات عدت إلى فلسطينَ مدرساً في إحدى المدارس، وظلّت القصة في قلبي، وكان هناك سؤالٌ كبير يقضُّ مضجع القصة: ماذا حدث للعصفورين الآن؟ أين هما الآن؟.

  تأخرت الإجابة عشرين عاماً... رأيته في مؤسسة كنت أزورها صدفة.

-مرحباً

-أهلاً

-كيفك؟ متذكرني؟

-آه شكلك مألوف.

- كان دائماً معك عصفورة  شو صار فيها؟ (كنت أتوقع أن يقول صارت زوجتي)

- اي عصفورة؟  قصدك (م) هههههه زمان طارت.

 - كيف يعني طارت؟ (خفت أن تكون قد ماتت).

- يعني زي كل الأشياء اللي بتطير وأشار بيده غير عابئ بمواصلة الحديث وضحك ضحكة قوية.

هذه المرة لم تقع ضحكته على قدمه وكانت قهوته في يده ثابتة.

أصابني مغصٌ فظيعٌ فجأة، مشيتُ من أمامه نازلاً درج المؤسسة لا قهوة على قدمي ولا ضحكات ولا كتب نسيتها هناك.