في مديح التنحي
نشر بتاريخ: 2020/12/08 (آخر تحديث: 2025/12/16 الساعة: 15:44)

ليس كل ذي سلطة يفهم منافع التنحي. ربما لأن السلطة، كالنفس، أمّارة بالسوء، بل ربما لأنها تعمي البصيرة عن جملة من الحقائق، التي تعود فتفرض نفسها ولو بعد حين، ولكن بعد أن يكون الوقت قد فات على الاستدراك، أو بعد أن تحولت المنافع الى مضار خطيرة أحيانا.

أنظر مثلا، في أن العقيد معمر القذافي لو كان قد تنحى في التوقيت المناسب، لما انتهى قتيلا تلك القتلة البشعة. ومثله الرئيس الروماني السابق نيكولاي تشاوشيسكو الذي واجه حكما بالإعدام هو وزوجته.

وفي الواقع، فان هتلر نفسه، كان بوسعه أن ينجو بنفسه وبألمانيا لو أنه توقف عند حدود الاتحاد السوفياتي السابق. أو لو أنه تراجع قبل أن تنقل المعارك الى ألمانيا نفسها. إلا أنه تأخر لأنه لم يدرك منافع التنحي في الوقت المناسب، قبل أن يقع الفأس على الرأس.

ويقال: “رحم الله امرئً عرف حدّه، ووقف عنده”. والحدُّ يمكن أن يكون حد انجاز، أو قدرات، أو حد عمر. وهو يُملي نفسه بنفسه، إن لم نعرفه.

ما يجب أن يحصل، يحصل في النهاية. فعندما يتراكم الفشل فوق الفشل، وترتفع الانتقادات، وتضيق الطرق على الحلول، وتتحول السلطة الى مخازي تثير السخرية أكثر مما تثير الاحترام، وعندما يصبح كل ذهب يقع بين يدي المرء ترابا، هو الذي كان لا يُمسك ترابا في السابق إلا ويصبح ذهبا، وعندما لا يعود يُصغي إلا الى نداء نفسه، وعندما يتحول مستشاروه الى راديو يرددون كلامه هو، ولا يكون لهم رأي صريح، فإنه لن يعود عندئذ بحاجة الى أن يتعامل مع سلطته على أساس الاعتبارات الطبيعية وحدها. أي أنه ليس بحاجة الى أن يجد نفسه في وضع لا يتركها فيه إلا بعد أن يأتيه نداء ربه. فيخسر الكثير من معاني سلطته نفسها، ولا تعود لها قيمة في عين أحد، ولا يعود لوجوده مبرر، ويصبح موته رحمة للعالمين، وانتظاره هو الموعد الوحيد الذي يذهب موظفوه إليه كل يوم، ليأملوا بتلقي النبأ السعيد.

وقد يكسب المرء وهو في سلطته، مالا ونفوذا ووجاهة وبُسطا حمر تمتد في مخيلته أكثر مما تمتد على الأرض، فيصبح التنحي وكأنه خسارة لكل شيء، فيتشبث بسلطته ويود لو يعثر على نوع خاص من الصمغ يلصق بينه وبينه مقعده على الكرسي.

ولكن المرء العاقل يعرف أن المال والنفوذ والجاه والبُسط الحمر ما كانت لتصل إليه لو أنها بقيت لغيره. بل أنه لو عرف منافع التنحي ما كان ليتركها تفسد بين يديه. فالمال تقل قيمته مع مضي العمر، والنفوذ يمكن أن يبقى في سياق آخر، والبُسط الحمر إذا أصبحت بُسطا زرقا، فإنها لن تختلف كثيرا على قدميه.

وكل هذا إنما يقول إن للتنحي فوائد لا يدركها من أعمت السلطةُ بصائرهم عما بعدها. ومن ذلك ما يلي:

1ـ يتحول المرء بتنحيه الى رمز للترفع والفضيلة، بدلا من أن تلاحقه اللعنات.

2ـ لا يخسر كل ما لديه من نفوذ. ذلك أنه يمكن أن يُصبح تلقائيا تقريبا “مستشارا” رفيع القامة، بدلا من أن يحني الذل قامته وهو يراكم الفشل.

3ـ يترك لجيل آخر أن يكمل المسيرة، ولكن ليس لكي يرى فيهم ماضيه أو ليروا فيه نهاياتهم، وإنما لكي يمضي معهم الى عالم جديد تصنعه العزائم الجديدة، بدلا من الاهتراء الذي تصنعه عزائمه المتآكلة.

4ـ يستطيع أن يأخذ عطلة مديدة، يقضيها بالاستمتاع بما فاته أن يستمتع به. فيسافر الى أماكن لم يرها، ويتحدث الى أناس لم يعرفهم، ويلتحق بمن رافقوه في مسيرته ووجدوا أنفسهم متقاعدين، ويُصبح نوعا من “مواطن رفيع” أينما حل.

5ـ لا يضع على أكتافه أحمالا لم يعد يستطيع حملها. ولا وزر انتقادات على فشل. ولا حتى أن يكون مجبرا على دفع ثمن أخطائه هو نفسه.

6ـ تكف المخاطر عنه، كما يكف عنها هو، طالما أنه لم يعد صاحب القرار في شيء أبعد من قيادة السيارة بسرعة تتجاوز المسموح.

7ـ لا يعود يسمع كلاما عن عظمته وعبقريته، لا من محازبيه ولا من منافقيه، فيتاح له أن يرى الأشياء بألوانها الطبيعية.

8ـ لا يُصدر أوامر لا تُنفذ، ولا يتلقى أوامر من أي أحد. ولا يعود بحاجة الى أن يأخذ المزيد من حبوب ارتفاع السكري والضغط.

9ـ يستدرك كل ما فاته من الوقت. فيعود اليوم ليكون مؤلفا من 24 ساعة، ولا يكون مضطرا الى أن يلاحق سراب أيامٍ تنسلُ من بين أصابعه كما ينسل الماء من الكفين.

10ـ يجد سبيلا لكي ينحني الى ربه، قبل فوات الأوان، فيكتشف معنى أن يُعفّر جبينه بالأرض، هو الذي ظل يُصعّر خدّه للسماء.

هذه فوائد لا يُدركها إلا الذين فهموا أن ما يجب أن يحصل سوف يحصل في النهاية.

 

عن الغد