في قراءة تباشير المرحلة الجديدة
عبد المجيد سويلم
في قراءة تباشير المرحلة الجديدة
الكوفية كما وعدنا في المقال السابق فإننا نتابع في قراءة المرحلة القادمة ما نراه قد أصبح يحمل المؤشّرات وبعض المعالم والعلائم التي تشقّ طريقها على ما يبدو واضحاً في بعض الجوانب، وكافياً في جوانب أخرى.
وإذا لم تباغتنا الأحداث التي تفرض نفسها أحياناً فإن النيّة هي محاولة قراءة هذه المؤشّرات، بدءاً من الوضع الدولي، أو ما يمكن أن نطلق عليه البيئة الدولية، بل ما يمكن أن نصفه بالحاضنة الدولية، أيضاً.
وسنحاول أن نستقرئ في ضوء ذلك التطوّرات الإقليمية، وخصوصاً لجهة تأثّر البيئة الإقليمية، والحاضنة الإقليمية «الجديدة» بتأثير مباشر من طبيعة الوضع الدولي الناشئ عن التغيّرات الكبيرة التي يشهدها التوازن الدولي الجديد، ومدى انعكاس كل ذلك على البيئة الإقليمية الجديدة.
ومن هنا، وعلى اعتبارات خاصة سنحاول استقراء الوضع الفلسطيني، فالوضع الإسرائيلي في ضوء متغيّرات الحالة الدولية، ومتغيّرات الحالة الإقليمية.
هيّا نحاول قراءة الوضع الدولي الجديد.
بقصد التكثيف، وفي محاولة لإجمال المؤشّرات الدولية الجديدة يمكن أن نسجّل المؤشّرات والعلائم والمعالم التالية:
على الصعيد الاقتصادي فشلت خطّة جو بايدن من خلال افتعال الحرب في أوكرانيا، أو لنقل من خلال اضطرار الدولة الروسية لشنّ عمليتها العسكرية، والتي تحوّلت إلى حرب متكاملة المواصفات والأركان.. فشلت في إحداث انهيارات اقتصادية روسية، وتمكّنت روسيا من تجاوز أكبر حزمة عقوبات في التاريخ كلّه، وانتهت الأمور اليوم ليس فقط إلى فشل أميركي فاضح، وفشل «غربي» كامل وشامل، وإنّما انتهت الأمور إلى صعود الاقتصاد الروسي، وتعافيه، وتسجيل معدّلات مرضية من النمو على الصعيد الكمّي والنوعي، وزيادة تسليحه بالتكنولوجيات المتطوّرة في الصناعتين، المدنية والعسكرية مترافقة مع مستويات جديدة، غير مسبوقة، كمّية ونوعية هنا، أيضاً، من الخدمات الاجتماعية التي باتت بشبكة راسخة من الحمايات الاجتماعية، في حين تتراجع معطيات مثل هذه الخدمات، وهذه الشبكات في بلدان «الغرب»، وتتناقص كمّاً ونوعاً، وتزداد كلفتها على دافعي الضرائب في الوقت الذي تزداد فيه الأعباء الضريبية على الطبقة الوسطى والمتوسّطة، وعلى العاملين والمزارعين، وتتناقص هذه الأعباء عن الأغنياء وطواغيت الرأسمال.
واستطاع الاقتصاد الروسي تمويل الصناعات العسكرية بكفاءة عالية محدثاً تفوّقاً هائلاً في هذه الصناعات، والتي قلبت الكثير من التوازنات العسكرية بين روسيا وبين مجموع الدول «الغربية» مجتمعة، حتى وصلت الأمور إلى الإقرار بأن التفوّق الروسي في المجال الصاروخي والنووي بات مكرّساً لعقود قادمة.
وكل الزيادات الهائلة في ميزانيات الدفاع الأوروبية والتي بلغت 5% من الناتج المحلّي الإجمالي ــ وهي نسبة فلكية ــ ليست سوى محاولة، وأظنّها يائسة للحاق بالتفوّق العسكري الروسي في بعض المجالات العسكرية الإستراتيجية.
وعلى الصعيد الاقتصادي نفسه خسر ترامب المبارزة مع الصين، ولم تنجح خطّته بالزيادات الجمركية، بل وفشلت فشلاً فضائحياً، وتراجع عنها تراجعاً مُشيناً، أدّت إلى «لملمة» كل «إستراتيجية» السياسة الجمركية، ليس أمام الصين فقط، وإنما فشلت فشلاً ذريعاً في كل البلدان التي أُعلن عنها في حينه.
وتتقدّم الصين في المجال الاقتصادي بثبات ورويّة وبخطوات واثقة ومدروسة، وأصبحت تُرفق تقدمها الاقتصادي، والذي يتفوّق، أيضاً، في مجال الصناعات العسكرية بإستراتيجيات سياسية على المستوى الدولي، خلافاً لما كان عليه الوضع قبل وصول الاقتصاد الصيني إلى ما وصل إليه من قفزات في كل المجالات الصناعية والتجارية، ولما وصلت إليه الصين من تطوّر مبهر في مجال الصناعات العسكرية، وإلى مستويات أكثر إبهاراً في مجال الذكاء الصناعي وتقنيات التواصل الاجتماعي والمالي والتجاري.
في حين نعرف أنّ الاقتصاد الأميركي يعاني من أزمات متفاقمة أدت إلى انفضاض طواغيت المال والأعمال من حول ترامب، والأحاديث العلنية عن أزمات قادمة لا محالة، وبمقاييس أكبر من أزمة الرهن العقاري في 2008، وعن تضخّم لا يمكن كبح جماحه على المستوى المتوسّط، حتى وإن استطاعت بعض السياسات الاقتصادية العشوائية احتواء الأزمة حالياً.
وعلى المستوى الأوروبي يتفكّك الاتحاد الأوروبي بصورة خفيّة ولكنها مستمرة، وتعصف به أزمات اقتصادية وسياسية عميقة باعتراف قادته أنفسهم، وتحوّلت الحرب الروسية الأوكرانية إلى سيفٍ مسلّط على مستقبل الاقتصاد الأوروبي، وأصبح «الحليف» الأميركي المعول الأوّل في هدم البناء الأوروبي الذي راهن عليه الأوروبيون لعقود كاملة.
الشيء المؤكّد حتى الآن أن «أوروبا الشرقية» هي في طريقها إلى «الانزواء» ولدينا التيار الذي ما زال يرى في العولمة «الطريق» الوحيد، في حين يرى تيار آخر أن السيطرة «القومية» أصبحت هي الحلّ الوحيد، وليس حالة اللااستقرار السياسي سوى الانعكاس المباشر لهذه الفوضى الكبيرة. هناك انهيارات اقتصادية مرعبة في بريطانيا وألمانيا، وبالتالي مراكز «الغرب» الأوروبي تتصدّع، والقيادات فيها تفقد الدعم الشعبي، وتنمو تيارات يمينية ويسارية كبديل راهن وملحّ.
والولايات المتحدة الأميركية تطمح للاستحواذ على الشركات الأوروبية الكبيرة و»جذبها» إليها، وهذه ليست سوى الاسم الحركي لتدمير الاقتصاد الأوروبي، وتدمير خط «نورد ستريم 2»، ليس سوى مثال واحد على الأطماع الأميركية.
منطق أميركا هو فرض حروب بالوكالة، وتوريط أوروبا في هذه الحرب لأنه ليس لدى أميركا قوة عسكرية للمواجهة أو للحروب أو «أوراسيا»، ولم يعد أمام أوروبا الآن سوى أن تختار بين استقلالها، وهو أمر ليس له أساس بعد، وبين أن يبقوا في المحور الأميركي من دون أن يتمكنوا من منع التفكّك. ليس أمام أوروبا سوى أن تختار بسرعة بين وضعين أحلاهما مُرّ، أميركا في النسخة «الترامبية» أخذت قرارها بتفكيك أوروبا.
كما أن أميركا بعد فشل «السياسات الجمركية»، والفشل في «إخضاع» كندا والمكسيك بالتهديد المبطّن تحوّل الوضع بالتهديد العلني ضد فنزويلا، وكانت هناك ضربة أميركية كبيرة ضد إيران، ومن الواضح أن الهيمنة الأميركية لها علاقة بأزمة الطاقة التي ستنشب حتماً بعد أن توطدت العلاقة الروسية الصينية، وبعد أن تمكنت إيران من إيجاد موطئ قدم لها في وسط هذا التحالف الثنائي، وبعد أن انحازت الهند إلى «الشرق» من خلال «بريكس»، ومن خلال اختيار مصالحها القومية، بعد أن فهمت بأن أميركا يمكن أن تبيعها عند أوّل مفترق في أي صفقات قادمة مع روسيا والصين، أو الخضوع للهيمنة الأميركية.
الإدارة الأميركية في نسختها الأخيرة هي لاعب سيرك سياسي، خسرت المبارزة الحقيقية، وهي ذاهبة لعقد صفقات مع «الشرق» على حساب الجميع، وهي تراهن على «فضّ» التحالف الروسي الصيني لاحقاً.
باختصار انتهت السياسة الأميركية الإستراتيجية التي بُنيت على مدار أكثر من قرن كامل، وهذا الانقلاب ليس سوى التعبير المباشر عن أزمة الإمبراطورية الأميركية، وعن عجزها عن التنافس، وعن فشلها في تقديم أي نموذج جديد، وعجزها الأكبر عن وقف تطوّر محور الشرق نحو محورٍ موازٍ، متماسكٍ، قوي وبديل.
الآن تتصرّف أميركا كعصابة من قطّاع الطرق، ترفع من تشاء، وتحاول إسقاط من تشاء.
تمّ «تحرير» أكبر تاجر مخدّرات في هندوراس، خوان أولاندو فيرنانديس، محكوم عليه بقرار محكمة لكي يسلّحوه ضد «أعداء» أميركا هناك، وتمّ تحويل «الجولاني» إلى رئيس شرعي من دون أيّ تردّد من إرهابي مطلوب «للعدالة» الأميركية، وفي نفس الوقت يتمّ اتهام الرئيس الفنزويلي مادورو بتجارة المخدّرات!
الحقيقة أن ترامب لا يهتمّ لا ببلده، ولا بعظمتها، هذا كلّه مجرّد غطاء لمجموعته التي تبحث عن مصالحها الخاصة على حساب أميركا، وعظمتها، وعلى حساب الشعب الأميركي، وهي نفس النسخة التي تتربّع على النظام السياسي في دولة الاحتلال، وهي مفارقة ساطعة، وفاقعة ولا تختلف في جوهرها ومضمونها وأشكالها، أيضاً.
كانت «الترامبية» مشروعاً سياسياً واقتصادياً كبيراً، وكان له فلسفة، وله رؤى وتطلّعات، ولكن «الترامبية» أنهت هذا المشروع، وتمّ تصفيته كلّه لصالح طغمة صغيرة بقيت مع ترامب الآن.
«الغرب» يعيش حالة حراب حقيقي، وهم يعملون ليل نهار لإجهاض القانون الدولي، ولتصفية أي شكل من أشكاله في العلاقات الدولية.
«الغرب» باع كل قيمه السابقة، ولم يعد هناك أي ضوابط لهذه القيم، في حين يعود الشرق قوياً لمنطق الحق والعدالة، بما في ذلك الحق الروسي بالدفاع عن روسيا ضد عقد كامل من التخطيط الأميركي و»الغربي» للنيل منها.
وإذا حاول «الغرب» اللعب بورقة تايوان الصينية فإن مصيرها لن يكون بأفضل حال من مصير أوكرانيا، إذا لم يكن أسوأ بكثير.
العالم يُعاد تشكيله، وعمّا قريب سينقلب شكله الذي عرفناه، وما سنشهده من انقلابات كلّه يعمل ضدّ مصلحة دولة الاحتلال، لأنها هي جزء من «غربٍ» يعيش مرحلة الأُفول.